تتقاطع قضية العنف الجنسي، والتي هي في صلب سؤال الحركة النسوية، مع سياقات سياسية واجتماعية وثقافية أوسع ومع هويات متنوعة للمعتدين والناجيات بخلاف النوع الاجتماعي كالعرق أو الطبقة، وتطرح عدة تساؤلات حول علاقات القوى المرتبطة بتلك الهويات المتنوعة والمتقاطعة. إن قضية العنف الجنسي قضية شديدة الحساسية بطبيعة الحال لطرحها قضية انتهاك الجسد من ناحية ولتشابكها مع عدة قضايا كالعنصرية والطبقية من ناحية أخرى.
وتأتي الاعتداءات الجنسية الجماعية التي وقعت ليلة رأس السنة الجديدة هذا العام 2016 في مدينة كولونيا الألمانية (وثمانية مدن ألمانية أخرى) من قبل مجموعة من الرجال أُثير أن أغلبهم من المهاجرين واللاجئين العرب والشرق أوسطيين لتذكرنا بهذه التعقيدات. تباينت ردود الأفعال علي أحداث كولونيا في أغلبها بين قراءة عنصرية في خطابها تجاه المسلمين والعرب تبشر بتزايد لممارسات عنصرية شرسة ضد اللاجئين أو المهاجرين من أصول عربية ومسلمة، وقراءة أخري تتبني خطاب اعتذاري تجاه الجناة في مواجهة الخطاب العنصري. وأذاعت بعض الصحف مؤخرا أن ثلاثة فقط من المشتبه بهم هم من اللاجئين مع التأكيد أن باقي المشتبه بهم من أصول عربية ومسلمة مما أدي إلي فتح النقاش مجددا حول هذه الأحداث وما إذا كانت استخدمت لأغراض عنصرية. ويضعنا هذا السجال أمام مهمة صعبة وهي محاولة طرح خطاب يحاول ان يتطرق الي كل أوجه الحدث ولا يغفل جانب لحساب الآخر.
ونحن نطرح علي أنفسنا مهمة الاشتباك مع اعتداءات كولونيا- أو بالأحرى تفرض هي نفسها علينا- لعدة أسباب مرتبطة بهويتنا كنسويات عموما وكنسويات مصريات خصوصاً. فنحن نؤمن أن التضامن النسوي هو مفهوم عالمي يتخطى حدودنا وبالتالي نؤمن بمسئوليتنا في التصدي للعنف الجنسي أينما وقع والتضامن مع الناجيات من العنف أينما كانوا كما نؤمن انه واجبنا أن نظل دائما جزءًا فعالًا من النقاشات الدائرة حول هذه القضية. ويأتي اشتباكنا مع أحداث كولونيا أيضا من موقعنا كنسويات مصريات بشكل خاص حيث أن المأزق التي وضعت فيه أحداث كولونيا النسويات الغربيات يذكرنا بما اختبرناه نحن من خلال تجربة الاعتداءات الجنسية الجماعية والاغتصابات التي وقعت في محيط ميدان التحرير. فمع انطلاق الثورات العربية وبالأخص الثورة المصرية، شاهدنا مقاومة شديدة من قبل بعض القوى الديمقراطية والسياسية للاعتراف بالانتهاكات التي تتعرض لها النساء في التظاهرات والمجال العام عموما والتي اتخذت أشكالاً مفزعة من الاعتداءات الجنسية الجماعية إلى الاغتصاب بالآلات الحادة و ذلك لعدة أسباب، أولها عدم اعتبار العنف الجنسي قضية عامة أو سياسية تهم جميع الفاعلين في المجتمع و حصرها في كونها قضية هامشية تخص فئة معينة. و كما طرحت اعتداءات التحرير سؤال النسوية و السياسية تعيد كولونيا طرح هذا السؤال اذا عرفنا السياسة بمفهومها الواسع لتشمل علاقات القوى و البنى السياسية و الاجتماعية التي يتحرك في إطارها الفاعلون المختلفون. ولأن الكثير من القوى السياسية و الاجتماعية لا يرى التقاطع بين القضايا النسوية وقضايا المجال العام والسياسي، يتم التعامل بتنحية حقوق النساء جانبا ايثارا لقضية تبدو أعم أو أكثر أهمية مثل "الثورة" أو حقوق اللاجئين. فكما تجاهل البعض اعتداءات التحرير خوفاً من أن يضر ذلك بالثورة، يخشي البعض أن تضر إدانة اعتداءات كولونيا بحقوق اللاجئين و المهاجرين في أوروبا. وفي الواقع، أن صعوبة التعاطي مع اعتداءات التحرير ومع أحداث كولونيا ترتبط خصيصًا بصعوبة الاعتراف بوجود إشكاليات كبرى في الفئات التي ننتمي إليها أو نناصرها ومنها الأبوية الراسخة التي تتجلى في أشكال العنف الجنسي.
ان إدانة الاعتداءات الجنسية الجماعية علي النساء في كولونيا مع التأكيد علي حقوق اللاجئين والمهاجرين باعتبار أن لا علاقة للحادث بالخلفية العربية والإسلامية لأغلب الجناة أمر سهل. أما السؤال الأصعب فهو: هل لتلك الاعتداءات الجنسية ارتباطا بالخلفية العربية أو الشرق الأوسطية للمعتدين؟ وكيف ندين تلك الاعتداءات ونرجعها لأسبابها المتصلة بعوامل ثقافية ضمن عوامل أخري دون الوقوع في فخ العنصرية أو التعميم المخل؟!، خاصة مع الوضع الهش والحساس لمجتمعات المهاجرين واللاجئين في أوروبا؟
يفرز هذا التساؤل عدة إشكاليات أولها إشكالية نظرية وهي أن المقاربة الثقافية وربطها بالمسألة النسوية لطالما اقترنت بالخطاب الاستشراقي والاستعماري سواء في القرن التاسع عشر أو في الحروب الاستعمارية الجديدة في أفغانستان والعراق، والإشكالية الثانية هي إشكالية عملية تخص عدم التذرع بطرح تلك الاسئلة لعقاب اللاجئين والمهاجرين جماعيا خاصة مع النقاش الدائر في أوروبا حول استقبال اللاجئين وصعود بعض التيارات العنصرية مؤخراً إلا أن تجاهل تلك الأسئلة الصعبة التي تخص الثقافة و الممارسات التي تستند لعادات دينية في المجتمعات العربية والإسلامية وعلاقتها بالعنف ضد النساء بشكل عام والعنف الجنسي بشكل خاص به إشكالية أخرى وهي التواطؤ مع العنف الأبوي ومع بعض مسبباته المتعلقة بتلك الأسئلة. و لقد علمتنا التجربة أن تجاهل الأسئلة الصعبة لا ينتج سوى المزيد من العنف ضد النساء و التسامح معه. و في الحقيقة أن تجاهل تلك الأسئلة – سواء في تجربة التحرير أو في أحداث كولونيا- ينبع من التعامل مع الاعتداءات الجنسية من منظور يتجاهل قضايا النساء أو لا يربط قضايا النساء بقضايا أخرى . و لكننا ان أردنا التعامل مع هذه الاعتداءات من منظور نسوي يرى الناجيات كأولوية و يقرأ الحدث كواقعة عنف ضد النساء في المقام الأول، فينبغي طرح تلك الأسئلة بعمق وتمعن.
ولذلك وبالرغم من الإشكاليات التي تحاصر أي نقاش حول أحداث كولونيا، فنحن نؤمن بضرورة التطرق إلى تلك الاحداث بصراحة وجدية ويتطلب ذلك ربطها بالخلفية الثقافية والاجتماعية للمعتدين لا كالعامل الوحيد ولكن كعامل مؤثر وفعال ضمن سياقات سياسية واقتصادية أخري. كما نؤمن بإمكانية إعادة طرح الأسئلة المتعلقة بالثقافة والهوية بشكل غير متماه مع الخطابات العنصرية أو الاستعمارية الاستشراقية. وربما يصعب علي النسويات الغربيات طرح تلك الأسئلة في السياق المجتمعي المعادي للعرب والمسلمين مما يجعلهن يتفادونها في بعض الأحيان لتقديرهن أن الرسالة الأهم في مجتمعاتهن في موقف مماثل هي التصدي للهجمات العنصرية التي ستواجه آلاف من الأبرياء من العرب والمسلمين. ونتفهم هذا الموقف رغم اختلافنا معه، ولكننا كنسويات مصريات انخرطنا في أنشطة مختلفة للتصدي للعنف الجنسي خلال السنوات الخمس الماضية موقعنا مختلف وموقفنا من جريمة كولونيا يجب أن يوجه أيضا إلي مجتمعاتنا ويتسق مع واقعنا والذي يعتبر العنف الجنسي ممارسة قد تكون شبه يومية.
ومن هذا المنطلق تقدم نظرة للدراسات النسوية هذه الورقة التحليلية حول أحداث كولونيا من منظور نسوي نؤمن به ويقف علي أرضية صلبة فيما يخص الإيمان بحقوق اللاجئين ومواجهة العنصرية، إلا أنه لا يقبل استخدام هذه المبادئ كأدوات للابتزاز والمساومة علي حقوق النساء. فيجب أن تقع علي عاتق كل النسويات مسئولية تقديم موقف جاد وشجاع من الأحداث كي لا نترك الدفاع عن قضايا النساء لأصحاب الخطابات العنصرية الذين سيستخدمون القضية للهجوم علي المهاجرين واللاجئين فقط . ولذلك فهو دورنا نحن أن نتبنى خطابًا يدافع عن سلامة النساء دون اللجوء للعنصرية والتعميم. وسنحاول صياغة موقفنا هذا أولاً عن طريق إعادة النظر إلى الحدث وأسبابه من منظور النوع الاجتماعي (gender) وثانيا وضع هذا الحدث في سياق العنف ضد النساء (والعنف الجنسي بشكل خاص) في مجتمعاتنا لطرح مسألة ما يطلق عليه "الثقافة" والتي تعد من أكثر الإشكاليات عند طرح قضايا النساء ، وأخيرا نتطرق إلى مشكلة حماية اللاجئين والمهاجرين من أصول عربية ومسلمة.
نبذة عن أحداث كولونيا
تعرضت عدة نساء في مدينة كولونيا الألمانية ليلة رأس السنة الجديدة إلى اعتداءات جنسية جماعية من قبل مجموعة من الشباب الذي قيل أن بدى علي ملامحهم أنهم "قادمون من الشرق الأوسط أو شمال أفريقيا" طبقا لوصف الناجيات ورجال الشرطة وتعرضت أيضا بعض النساء إلى حوادث سرقة من قبل المعتدين. وتحقق الشرطة الألمانية الآن في 516 شكوى مقدمة بخصوص تلك الأحداث ومنهم 40% شكاوى اعتداء جنسي و شكوتين اغتصاب. حتي الآن تضاربت الأرقام ما بين ضبط 32 مشتبه بهم من قبل الشرطة المحلية من بينهم 22 لاجئ أغلبهم من الدول العربية مع وجود عدد قليل جدا من دول أوروبية وما بين ضبط 58 مشتبه به منهم ثلاثة لاجئين و الباقي مهاجرين من أصول عربية.
وعلي أثر هذه الأحداث تم اتخاذ بعض الاجراءات ومن بينها إعفاء مدير أمن مدينة كولونيا من مهامه لاتهامه بالتقصير كما أعلنت رئيسة الوزراء الألمانية ميركل عن ترحيل اللاجئين الذين تثبت عليهم تهمة الاعتداء الجنسي طبقا للقانون الذي يلغي حق اللجوء للمحكوم عليهم أو المدانين بجرائم.
وفي الواقع لم تكن اعتداءات مدينة كولونيا هي الوحيدة من نوعها، فهناك اعتداءات مماثلة تم الابلاغ عنها في ثمان مدن ألمانية أخرى منها هامبورج وشتوتجارت وميونيخ (وخارج ألمانيا في سويسرا والنمسا) إلا أن اعتداءات كولونيا كانت الأكثر فجاجة من حيث عدد النساء المعتدى عليهن. و ربما تسرع الاعلام العنصري في نسب الأحداث للاجئين العرب و المسلمين إلا أن التغطية الاعلامية للأحداث من قبل الإعلام المتعاطف مع قضية اللاجئين كان متباطئا. كانت ردة الفعل الأولي هي محاولة التستر علي الأحداث أو تجاهلها كما تم تجاهل أحداث مشابهة و ان كانت أقل فجاجة وكأن قضية العنف الجنسي تستحق أن تثار فقط عندما يصل الأمر للاعتداء الجماعي علي مئات النساء. بالرغم من إيماننا أن العنف ضد النساء موجود في جميع المجتمعات و ليس حكراً علي عرق أو طبقة معينة إلا أن هذه الورقة مستوحاة من أحداث كولونيا المؤسفة، بالتالي هي تسلط الضوء علي دلالات هذا الحادث لتطرح إشكاليات أكبر متعلقة بالعنف الجنسي عموماً و أسئلة مرتبطة بإشكاليات و أسئلة ما يطلق عليه "الهوية" و"الثقافة".
إعادة النظر إلي أحداث كولونيا من منظور النوع الاجتماعي
إن إحدى المشاكل الأساسية التي تواجه التعاطي مع أحداث كولونيا هي النظر للموضوع من خلال زوايا أخرى بعيدة عن النوع الاجتماعي بينما نؤمن نحن بضرورة تبني منظور النوع الاجتماعي سواء لفهم الحدث في حد ذاته أو أسبابه ومن ثم ردود الأفعال عليه.
رأى البعض أن تسليط الضوء على هذه الأحداث له مبرر عنصري حيث أن الإعلام يهتم بشكل خاص بحوادث الاعتداء الجنسي عندما يرتكبها العرب أو المسلمون أو عندما ترتكب ضد نساء ذات بشرة بيضاء وأن هذا الحادث سيعطي مبررات لاستهداف اللاجئين العرب والمسلمين. وفي حقيقة الأمر هذه النقاط مشروعة ولها وجاهتها ولكن هناك إشكالية كبرى في طرحها كأولوية وتحويل الواقعة من حادث اعتداء جنسي علي النساء إلى ساحة للدفاع عن المسلمين والعرب وتحويل محور النقاش من مشكلة العنف الأبوي إلى مشكلة العنصرية دون الربط بينهما . فبداية، أول ما يجب علينا رؤيته في أحداث كولونيا هو أن مجموعة من الرجال اعتدت جنسيا علي مجموعة من النساء وهي جريمة تستدعي العقاب بغض النظر عن كونهم مهاجرين أو لاجئين أو مهمشين بشكل عام. فالمسألة هنا هي في المقام الأول مسألة تخص النوع الاجتماعي. لقد تم الاعتداء علي تلك النساء لكونهن نساء، ويمكن قراءة المسألة وتحليلها بالعلاقة مع لونهن وطبقتهن وخلفيتهن العرقية، ولكن في سياقهن كنساء ناجيات من العنف الجنسي. عدم رؤية الحدث كاعتداء جنسي وانتهاك لأجساد النساء قبل أي شئ هو تواطؤ مع العنف الأبوي. بالطبع، تحتاج مجتمعات المهاجرين واللاجئين إلى حماية من العنصرية والاضطهاد ولكن النساء أيضا لهن الحق في الحماية من التمييز والعنف القائم علي أساس النوع وفي هذه الواقعة بالتحديد تم الاعتداء علي النساء دون غيرهم ولذلك فلا ينبغي لأي حسابات سياسية أو حتى إنسانية أن تأخذ الأولوية على حق النساء الناجيات من العنف، وكون الاعتداء عليهن تم من فئة أخري مهمشة لا يقلل من بشاعة الجرم.
ان وضع الامر كمقارنة اما حقوق النساء أو حقوق المهمشين والمهاجرين و اللاجئين هو ما يخرج الأمر من سياقه ويسفر عن قراءة قد تكون قاصرة أو غير عادلة للنساء.
إن تعرض فئة من المجتمع للتمييز ولتكن على سبيل المثال اللاجئين والمهاجرين في هذا السياق لا يعني اعتبارها ضحية تلقائياً ولا يعني إعفاء أفراد منها من المسئولية إذا قامت بارتكاب جرائم. الخطاب الاعتذاري الذي يبرر أو يتستر علي الاعتداءات لاعتباره أن المعتدين "ضحايا" و"مهمشين" أو لمناهضة العنصرية والاسلاموفوبيا هو في حقيقة الأمر خطاب مهين للمهاجرين وإن كان يبدو متعاطفاً معهم، فهو يفترض أن مجتمعات المهاجرين واللاجئين مسلوبة الإرادة أو العقلانية ولا تجد أمامها اختيارات سوى اللجوء للعنف الجنسي كرد فعل على تهميشهم ومعانتهم.ونحن نفترض على النقيض أن اللاجئين والمهاجرين أناس مسئولة عن أفعالهم كما لا نعتبر المهاجرين كتلة واحدة متجانسة تماما، بل كأي فئة مجتمعية أخرى منهم من يحترم حقوق النساء ومنهم من لا يحترمها. وفي الواقع هذا الطرح يعزز لاحترام حقوق اللاجئين والمهاجرين. فالخطاب القاصر الذي يعتبر جميع اللاجئين والمهاجرين كتلة واحدة من الضحايا والمستضعفين وفقط هو الذي يرسخ لفكرة العقاب الجماعي عندما يتم خرق القانون من قبل بعض الأفراد من هذه المجموعات، أما اعتبار اللاجئين والمهاجرين كسائر فئات المجتمع كمجموعات متنوعة لها حقوقها وواجباتها فيرسخ لفكرة أنه كما ينبغي معاقبة من أخلوا بواجباتهم، فينبغي أيضا عدم المساس بحقوق أساسيه مثل حق السلامة الجسدية . أن مواجهة العنصرية والاستشراق بتلك الطريقة التي تتعامل برومانسية مع المهاجرين العرب واللاجئين هي جزء من نظرة قد تصل الي عنصرية واستشراقية مستترة وكأن لهؤلاء الرجال قدرات عقلية ومعايير أخلاقية أدنى تغني عن محاسبتهم كما يجب أن يحاسب سائر البشر.
ونفس الخطاب الذي تجاهل حماية النساء لحساب حماية اللاجئين في حادثة اعتداء جنسي هو الذي يُرجع ارتكاب تلك الجرائم حصرا إلى الظلم الذي يتعرض له اللاجئين وعوامل الفقر والتهميش والظروف الاقتصادية للفئات المهمشة. وبالطبع المقاربة الاقتصادية والسياسية للموضوع ضرورية ولا يمكن تجاهلها حيث أن العنصرية والفقر هي عوامل مهمة ومؤثرة تؤخذ بعين الاعتبار عند ارتكاب أي جريمة، إلا أن هناك عدة إشكاليات في هذا الطرح الذي يتجاهل تماماً منظور النوع الاجتماعي. أولاً يعزز هذا الطرح للتطبيع مع جريمة العنف الجنسي كأنها رد فعل طبيعي للظلم المجتمعي ويتجاهل أن العنف الجنسي اختيار واع لصاحبه. ثانيًا، يتجاهل هذا الخطاب أيضا آلاف الرجال من اللاجئين والمهاجرين الذين لم يختاروا العنف الجنسي كملاذ للتعبير عن معاناتهم وقهرهم. ثالثا ينزع هذا الخطاب العنف الجنسي من سياقه الأوسع ويفترض أن العنف ضد النساء هو حكر علي طبقة أو عرق معين أو على المهمشين فقط، ويتجاهل أن هذه الجريمة يتم ارتكابها يوميا من رجال من خلفيات اجتماعية وسياسية مختلفة. فجريمة العنف الجنسي لا تنفصل عن الرؤية الدونية للنساء واستباحة أجسادهن.
ففي واقع الأمر، الخطاب الذي يدين الظلم المجتمعي والتهميش الاقتصادي كالمسئول الأول عن جريمة العنف الجنسي هو خطابا تبريرياً ومحافظاً من منظور النوع الاجتماعي وإن كان يبدو غير ذلك. وإن كان هذا الخطاب غير مطابق بالطبع للخطاب الذي يلقي مسئولية العنف الجنسي على النساء، إلا أنه يصر علي وضع المعتدي في خانة الضحية بشكل أو بآخر، ويلقي اللوم على "شئ ما" خارج إرادته ويفشل بالتالي في رؤية الاعتداء الجنسي كتجلي للمنطق الأبوي والنظرة الدونية للنساء ويراه علي العكس تجلياً لأشكال مختلفة من الظلم الذي يتعرض له المعتدي (العنصرية – القهر الطبقي – الاضطهاد، إلخ). وفي الحقيقة أن هذا الخطاب مثله مثل الخطاب الذي يستخدم معاناة النساء لأغراض عنصرية لا يزيد إلا من الأثر السلبي علي الناجيات ولا يساعدهن على تجاوز كرب ما بعد الصدمة الذي سيعانين منه طوال حياتهن بدرجات متفاوتة، حيث أن كلا الخطابين يتعاملان مع النساء علي أنهن مجرد "مشكلة" ثانوية أو أداوات سياسية في الصراع المتعلق بقضية اللاجئين ولا يتم النظر إلى قضيتهن هن كناجيات من العنف الجنسي. ولذلك فتبني منظور النوع الاجتماعي كعدسة لرؤية تلك الأحداث يندرج تحتها العوامل الاقتصادية والسياسية وليس العكس هي ضرورة للنظر إلى الحدث من زاوية تتجنب التواطؤ مع العنف.
وضع أحداث كولونيا في سياق "ثقافة العنف الجنسي ضد النساء"
ومن منطلق أن العوامل الاقتصادية والاضطهاد المجتمعي هي عوامل مهمة ومساعدة إلا أن النوع الاجتماعي هو الأساس الذي يتم ارتكاب تلك الجرائم عليه فلا يمكننا تجاهل الخلفية الثقافية للكثير من الرجال ومنهم بعض المهاجرين واللاجئين والتي ترسخ لتقبل العنف الجنسي ضد النساء في المجالين الخاص والعام. ليس المقصود هنا هو التعميم بأن جميع العرب والمسلمين يعنفون النساء ولا الترويج لأطروحة استشراقية على غرار "صراع الحضارات" باعتبار أن الثقافة الشرقية بطبيعتها متخلفة والثقافة الغربية متقدمة، فالأبوية بنية عالمية وليست عربية أو إسلامية فقط والعنف والتمييز ضد النساء ليس حكرا علي الرجال الشرقيين والعكس الصحيح. إلا أنه من المستحيل تجاهل حقيقة أن أغلب المعتدون في أحداث كولونيا إذا لم يكونوا من اللاجئين العرب فهم مواطنين ألمان من خلفيات عربية وإسلامية (مع وجود بعض الاستثناءات). والسؤال هنا هو هل تعاني تلك المجتمعات من ثقافة تطبع مع العنف ضد النساء؟
ونحن نطرح هذا السؤال على أنفسنا للتأمل الذاتي داخل مجتمعاتنا من موقعنا كنسويات مصريات نتشارك مع هؤلاء المعتدين "هوية ما" عربية أو شرقية أو إسلامية. فمن الصعب إنكار حقيقة أن الكثير من حقوق النساء السياسية والجسدية غير مكفولة في مجتمعاتنا وأن أغلب النساء في الدول الغربية تتمتع بحقوق وحريات مثل حرية الحركة والمظهر والاختيار لا نزال نحن نناضل من أجل اكتسابها. من الصعب أيضا إنكار حقيقة أن العنف الجنسي هو ظاهرة متفشية تتعرض لها النساء بشكل يومي في كثير من الدول العربية والشرق أوسطية والأهم من ذلك هو الترسيخ للإفلات من العقاب والتسامح من الدولة والمجتمع تجاه هذه الجرائم. ولا يمكننا إثارة تلك المشكلات دون تسليط الضوء على الدور الذي يلعبه المجال الخاص (والذي يتقاطع بالطبع مع ديناميكيات المجال العام) لإعادة إنتاج المزاج المتسامح مع العنف القائم علي النوع الاجتماعي، ولا يشمل فقط "عنف" المجال الخاص الأشكال الأكثر فجاجة مثل العنف الأسري والجنسي وبعض الممارسات مثل الختان وغيرها ولكن وربما هذا هو الأهم، واقع امتداد هذا العنف ليشمل تقييد حرية الحركة والاختيار والوصاية الأبوية علي أجساد النساء. وتأصل هذه الوصاية وهذا النوع من العنف البنيوي ضد النساء لفكرة عدم "ملكية" النساء لأجسادهن والتي يمتلكها الرجل بالأساس (الأب – الأخ- الزوج). ويعتبر العنف الجنسي في المجال العام امتداداً وتجلياً لهذا المنطق الأبوي والذي لا يزال يقبل وجود النساء في المجال العام قبولا مشروطا أو يراه إشكاليا وبالتالي يستسهل استباحة أجسادهن. ومن ناحية أخرى لا ترسخ الدولة بالضرورة لاحترام أجساد النساء وتتسامح مع العنف ضد المرأة سواء عن طريق الممانعة لسن قوانين تحمي النساء أو التخاذل في تطبيق القوانين الموجودة فعلاً، بل استخدمت الدولة في الحالة المصرية مثلا في الكثير من الأحيان العنف القائم علي أساس النوع كأداة لإقصاء النساء من المجال العام . وبالطبع هناك استثناءات، وبالطبع تتفاوت أوضاع النساء من دولة عربية\إسلامية إلى أخرى، وبالطبع هناك مكاسب إيجابية وحقوق تنتزعها النساء يوميًا عبر نضالهن، إلا أنه من الصعب التغاضي عن أن الاتجاه السائد في مجتمعاتنا هو تقييد حرية النساء وأجسادهن وما غير ذلك استثناء.
وهذا هو المقصود بثقافة العنف الجنسي، ليس أن الثقافة أو التركيبة العربية أو الشرقية بطبيعتها عنيفة وأبوية، إلا أن السياق المجتمعي و المستند غالبا إلي تراث ديني والقانوني يرسخ للتسامح مع العنف القائم علي أساس النوع واستشراءه في المجتمع. فهل يمكننا قراءة أحداث كولونيا دون الاشارة مطلقاً إلى هذه "الثقافة"؟ وهل يمكننا قراءتها بمعزل عن واقعنا المؤلم الذي يجعل من حركة النساء في الشارع تحد في حد ذاته بسبب ما يواجهونه من عنف يومي؟ وهل يمكننا طرح تلك الأسئلة كنسويات عربيات دون الانزلاق نحو الخطابات التعميمية أو كره و احتقار الذات؟
لقد تصدر المشهد النسوي غير الاستعماري وغير العنصري لعقود الطرح الما بعد كولونيالي والذي ناهض تنميط المجتمعات الشرق الأوسطية علي أنها متخلفة ورجعية وهمجية من قبل المستعمر الأبيض. ارتكزت تلك الأطروحة على فكرة تعدد الثقافات وأنه لا ينبغي فرض نمط الحياة والقيم الأوروبية علي مجتمعات أخرى باعتبارها "أفضل" أو بافتراض أن التقدم هو بالضرورة التقدم نحو النموذج الأوروبي، بل أنه يجب النظر لحضارات الدول الأخري باعتبارها مختلفة لا متخلفة، وأن هناك أكثر من نموذج ثقافي صالح. وبالرغم من وجاهة الطرح الما بعد كولونيالي في اللحظة التي اختمر بها والتي كانت رد فعل بالأساس علي تنميط استعماري حقيقي يمنع الشعوب من تقرير مصائرها، إلا أنه أصبح هناك شيئ شديد الإشكالية في الما بعد كولونيالية التقليدية و أصبحت غير متصلة أو غير مناهضة بالضرورة لأشكال القهر التي نتعرض لها و نقاومها في مجتمعاتنا اليوم. فبالطبع يجدر بنا احترام التنوع الثقافي وأنماط الحياة المختلفة ولكن بالطبع أيضا هناك قيم انسانية عالمية ترسخ لحقوق و حريات أساسية . وبالتأكيد تقييد حركة النساء وحرية ملبسهن ومظهرهن وجنسانياتهن أو الاعتداء على أجسادهن بأي شكل من الأشكال ليست من ضمن هذه القيم . ولقد أصبحت بعض الأطروحات الما بعد كولونيالية تتسامح مع قيم وعادات أبوية من باب احترام "الخصوصية الثقافية" وعدم التنميط.
والإشكالية الأكبر هي أن هذا الطرح من النسويات الغربيات أصبح يكمم أفواه النسويات العربيات ويعتبرهن أبواق استعمارية عندما تتحدثن عن العنف الأبوي التي تعانين منه في مجتمعاتهن أو عندما تدافعن عن القيم الانسانية التي يصفها البعض "الغربية". وكأن ينبغي علينا قبل إدانة الأبوية عندما تصدر من رجال شرق أوسطيين أن نهتم بما سيدور في فكر الرجل الأبيض الأوروبي وأن نجعل ذلك يتخذ الأولوية على الدفاع عن حقوق النساء وسلامتهن. وأصبح هذا الهوس بالغرب في كثير من الاحيان لا ينفصل عن الطرح الما بعد كولونيالي وأصبح هو الذي يحدد ما يمكن أن تتحدث عنه النسويات العربيات وما لا يمكن الحديث عنه. وبالتالي عندما يتم الاعتداء على نساء أوروبيات من قبل رجال أغلبهم شرق أوسطيين يكون رد الفعل الأول هو التواطؤ مع الجريمة. والتواطؤ هنا ليس بمعنى عدم إدانة الاعتداءات ولكن الاصرار أن لا علاقة لها على الإطلاق بالخلفية الثقافية لهؤلاء المعتدين وكأننا – النساء في الشرق الأوسط - لا نعاني من هذه الأشكال من العنف يومياً وكأن لا وجود لوقائع عنف جنسي وعنف ضد النساء في مخيمات اللاجئين والتي نصر أن نغمض أعيننا عنها. فلقد أعربت المفوضة السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين عن قلقها لتعرض النساء لحوادث اغتصاب وعنف أسري في المخيمات، إلا أننا لا نثير تلك الإشكالية حتى نحمي اللاجئين العرب من التنميط والعنصرية. وماذا عن حماية اللاجئات؟ ألا تستحق تلك النساء الحماية من العنف القائم على أساس النوع الذي يتعرضن له في بعض الأحيان؟ فاللاجئين الذكور بالرغم من تهميشهم اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً إلا أن أغلبهم مازالوا يتمتعون بامتيازات ذكورية بالنسبة لنظيراتهم من النساء.
طرح الأسئلة المتعلقة بالثقافة ليس بالضرورة طرح عنصري أو تعميمي، بل أصبح كذلك لأننا تركناه طويلا لتيارات عنصرية و محافظة وانسحبنا نحن من إعادة النظر في قيمنا المجتمعية خوفاً من أن نكون أدوات استعمارية، إلا أن الاعتراف بتلك الاشكاليات هو في وجهة نظرنا أحد الأدوار الأساسية للحركة النسوية في بلادنا. وبالطبع هناك أخطار في أن يتم استخدام نقد القيم والعادات التي تنتهك النساء في المجتمعات الشرق الأوسطية لأغراض استعمارية عسكرية، إلا أن هناك أخطاراً أيضا نرى نتائجها وندفع أثمانها الآن في أن تصبح مناهضة العنصرية و الأغراض الاستعمارية هي عن طريق التسامح مع ممارسات أبوية عنيفة. ولا يعني الاعتراف بإشكاليات مجتمعاتنا الإستغاثة بالغرب "لإنقاذنا" ولكن يعني ذلك ابتكار طرق للنضال بأنفسنا داخل مجتمعاتنا ضد الأبوية لأننا نؤمن بأن النساء في مجتمعاتنا تستحق ما هو أفضل. فتحرير مجتمعاتنا لا يكون فقط عبر تحريرنا من الدكتاتورية والامبريالية، بل أيضا عبر تحريرنا من سطوة القيم المتطرفة و الأفكار الأصولية . ويجب على النسويات الأوروبيات دعمنا في ذلك بدلاً من اعتباره تسامح مع الامبريالية. وينبغي علي القوى والمجموعات المؤمنة بحقوق النساء داخل مجتمعات اللاجئين والمهاجرين في أوروبا أن تلعب دوراً فعالا في مقاومة العنف والظلم الأبوي بداخلهم.
حماية اللاجئين والمهاجرين
ولا ينبغي بأي حال من الأحوال أن تكون تلك النظرة النقدية حجة للاستهداف العنصري للمهاجرين من أصول عربية ومسلمة أو للاجئين. بل ينبغي التأكيد علي أن المسئولية القانونية هي مسئولية فردية وأنه ينبغي معاقبة مرتكبي الجرائم بشكل عادل وطبقاً للقانون حتى وإن كانوا من اللاجئين أو المهاجرين. وبالطبع يثير تطبيق القانون على اللاجئين إشكالية حيث أن ذلك يعني ترحيلهم إلى الحدود التي تكون حياتهم معرضة فيها إلى خطر ولذلك نشدد على ضرورة تطبيق المادة 32 للإتفاقية الخاصة بوضع اللاجئين لعام 1951 والبروتوكول الملحق بها الخاص بوضع اللاجئين في عام 1967 بوجوب منح "اللاجئ مهلة معقولة ليلتمس خلالها قبوله بصورة قانونية في بلد آخر" إذا تمت إدانة هذا اللاجئ و"تحتفظ الدولة المتعاقدة بحقها في أن تطبق، خلال هذه المهلة، ما تراه ضروريا من التدابير الداخلية." وتطبيق القانون ومعاقبة المخطئين لا يجب أن يكون على حساب الإخلال بحقوق أساسية مكفولة بالقوانين والمواثيق الدولية مثل حق اللجوء وسلامة وأمان من لم يرتكبوا جرماً. وتعزيزا لمبدأ المسئولية القانونية الفردية فمن غير المقبول أبدا اللجوء للعقاب الجماعي لفئة مجتمعية بأكملها. ولذلك فلا ينبغي على تلك الجرائم أن تتسبب في ترحيل لاجئين أبرياء أو فرض قيود على الحدود والتعسف في قبول اللاجئين الاخرين. بل ـأن تطبيق القانون على المدانين ووضع مكافحة العنف ضد النساء كأولوية هو رادع كاف لمن يفكر في انتهاك حقوق النساء.
ويجب أن يكون للقوى الأوروبية المهتمة بحقوق اللاجئين سواء من حركات نسوية أو أحزاب أو منظمات مجتمع مدني دورا فعالا وإيجابياً في مواجهة الهجمات العنصرية وفي الضغط من أجل حماية مجتمعات اللاجئين والمهاجرين من أصول عربية. كما أن على الاعلام ألا يسلط الضوء فقط على جرائم العنف الجنسي عندما يرتكبها العرب والمسلمون بل يجب أن تكون مكافحة العنف ضد النساء والتمييز القائم علي أساس النوع في المقام الأول أيا كان مرتكب الجريمة.
خلاصة
ستظل قضية العنف الجنسي قضية شائكة بطبيعتها وقضية اللاجئين هي بدورها قضية حساسة في الوقت الراهن ولا يمكن لتقاطع القضيتين كما حدث في كولونيا إلا إنتاج موقف معقد يصعب التعامل معه بإجابات "سهلة" أو "مثالية" أو "جاهزة" عن عدم التعميم، وتفريغ الموضوع من جميع الأسئلة الجدلية التي تصاحبه. سنظل نواجه معضلات أخلاقية وسياسية أصعب طالما اهتممنا بقضايا النساء في سياق محلي وإقليمي ودولي ملتبس وعلاقات القوى به متغيرة وظالمة لأكثر من فئة. وندرك تماما حساسية طرح أسئلة متعلقة بالثقافة والدين في ظل التربص باللاجئين في المجتمعات الأوروبية، إلا أن تجاهل تلك الأسئلة لفترات طويلة أدي إلى وجود مزاج سائد متسامح مع العنف الأبوي في أحيان كثيرة. إن لم يكن الآن، فمتى يتسنى لنا طرح تلك الأسئلة الصعبة والمؤلمة؟
وفي كل الأحوال، لا ينبغي أن يكون تعاملنا مع المعضلات التي تواجهنا وستواجهنا حتما عن طريق التسامح مع انتهاك النساء أو اعتبار قضيتهن مسألة "ثانوية"، بل هناك ضرورة للمحاسبة والمسائلة بشأن جرائم العنف ضد النساء أيا كان مرتكبيها وأينما كانوا، فآن الأوان لوصم من يتبنون خطابات تلوم الناجيات أو تغلّب مصلحة ما على حق سلامتهن الجسدية.