تعد قضية العنف ضد النساء، سواء في المجال العام أو الخاص، صلب القضايا النسوية للمشتغلات بها، فلكل مشتغلة بالعمل النسوي تورط عاطفى نحو قضية العنف. ينبع هذا التورط من العمل على قضايا النساء، فنجد أنفسنا نواجه قضية عنف ونسترجع سؤالًا أصيلًا: كيف يمكن للنساء أن يحققن تواجدهن في المجال العام على اختلافهن وهن يواجهن عنفًا يوميًا؟
تأتى أحداث العنف الجنسي والاغتصابات الجماعية في محيط ميدان التحرير، والتي بدأت منذ عام 2011 وتزايدت وتيرة عنفها منذ نوفمبر 2012، لتجعل قضية سلامة أجساد النساء في المجال العام أمرًا واجب النقاش، وتفتح أسئلة عديدة متعلقة بانحيازات النسويات اللاتي اخترن في أكثر المواقف الثورية أن يتصدين لخطابات تقليدية ومسفهة من حجم قضية انتشار العنف الجنسي مثل: أولويات النضال وسمعة الميدان، وأقاويل تزعم أن ما تتعرض له النساء هو ثمن الثورة، وبعض الخطابات الأخرى التي وصلت إلى حد تكذيب المجموعات النسوية أو الناجيات أنفسهن وإنكار ما تعرضن له، وصولاً إلى خطاب استغلال الناجيات على نحو سياسي فقط، دون مناقشة القضية أو طرح أي حلول لوقف الظاهرة.
ساعد على تخافت تلك الأصوات والخطابات العمل الجاد من المؤمنات والمؤمنين بالنضال تجاه وقف تلك الظاهرة، والذين عملوا على وقف تلك الظاهرة عبر أساليب عمل متباينة تبدأ من التدخل المباشر لإنقاذ الفتيات، وصولًا إلى التوعية بالجرم، وتقديم خدمات للناجيات، والمطالبة بمحاسبة المتورطين، وتحميل الدولة مسؤوليتها تجاه مواطنات طالبن بحقوقهن في التواجد في المجال العام. قامت تلك المجموعات، على اختلافها، بطرح أسئلة حول قيمة النضال النسوي في لحظات ثورية وتحديد انحيازاتهم الواضحة حول أهمية هذا النضال.
ومع استمرار وتزايد وحشية الاعتداءات وزيادة أعداد الناجيات وتغير ديناميكيات التظاهرات، ظهرت العديد من الخطابات حول جدوى التمسك بنفس الخطاب المتعلق بوجوب حماية ميدان الثورة بعد أن تحول لمكان لا يمثل قناعة من يدفعون حياتهم ثمنًا لإنقاذ نسائه، ورأى آخرون أن وجود مجال عام آمن هو في حد ذاته فعل سياسي وأن اختلاف توجهات وقناعات هؤلاء النساء، وتعبيرهن عنها، أو وجودهن في مجال عام آمن، هو السبيل الوحيد لتواجد حركة نسوية سياسية مختلفة، أساس الاختلاف فيها قائم على التوجهات والقناعات وليس ممارسة سلطة أو قهر أو عنف تجاه أيّ منهن.
ورفضت الدولة آنذاك الاعتراف بحدوث مثل تلك الاعتداءات والاغتصابات، ووصلت إلى حد تحميل النساء المسؤولية كاملة عن ما تتعرضن له لأنهن ذهبن إلى أماكن يعلمن أن "بلطجية" يتواجدون بها، واستمر الخطاب من مسؤولين في الدولة في هذا الوقت ومن الحزب الحاكم آنذاك (الحرية والعدالة) يعمد إلى التمييز بين النساء، جازمين "أنهم عندما كانوا في الميدان لم يحدث أي من تلك الجرائم. وحدثت الآن لغير نسائهم"، وعندما تم الإعلان عن وجود مثل تلك الاعتداءات أثناء تظاهرات 30 يونيو أصدروا بيانات مضمونها أن "معارضي الرئيس مرسي هم المغتصبون".
وتأتى أحداث 3 و8 يونيو 2014 ويتم، كما "اعتدنا"، اغتصاب النساء في التظاهرات، هؤلاء النساء اللاتي من المفترض أنهن نزلن لتأييد الرئيس الجديد عبدالفتاح السيسي، وذلك يعنى افتراض حمايتهن، خاصة وأن صفة المعارضة نفيت عنهن، ولكن ذلك لم يحدث.
تعد تلك الواقعة نقلة فارقة فى التعامل مع قضايا العنف الجنسي في المجال العام في مصر، فلأول مرة تعترف الدولة، ممثلة في رئيسها، بحدوث تلك الجرائم ويتم السير في إجراءات قانونية لمعاقبة بعض المعتدين وهذا لم يحدث من قبل، مما جعل الكثيرون يتشككون في صحة إجراءات تلك القضية، وطُرح سؤال: هل من تم القبض عليهم هم المعتدون الحقيقيون أم لا؟
تأتى تلك الواقعة لتظهر جليًا انحيازات الكثيرين حول قضية العنف الجنسي في المجال العام، والانتقائية لدى الكثيرين حول من هن الناجيات ومن يستحققن الدعم. وما كانت تلك الخطابات إلا استمرارًا لنهج خطابات سابقة، بالنظر إليها نتفهم أن القناعة بأن العنف الجنسي في حد ذاته جريمة هو أمر يحتاج العمل على مراجعة قيم أبوية متجسدة في مجتمع يرتبك غالبًا من وجود أجساد النساء في مجاله العام ويخلط دائمًا بين إنسانيتهن ووجود أجسادهن ودورهن في المجال العام.
فغالبًا ما كانت انتهاكات الفاعلين في الدولة ضد النساء تلقى اهتمامًا وتركيزًا من قبل النشطاء أكثر من انتهاكات غير الفاعلين فى الدولة. فما يقوم به المواطن العادي من انتهاكات ضد المرأة يمس وبشكل أصيل تركيبة هذا المجتمع وتعامله مع النساء، ويظن البعض أن اعتبار ما يقوموا به جرم هو تجريم لمجتمع كامل، فينتهي الأمر أن يتعامل الكثير من النشطاء بطريقة متضاربة للغاية توضح مدى ارتباك المجتمع وازدواجية قيمه، حين يتجاهلون الاعتداءات من قبل غير الفاعلين بالدولة، و"يتحسسون" تصرفاتهم تجاه الناجيات من تلك الجرائم، ويعلو صوتهم وتتجلى القيم الذكورية في اعتراضهم على الجرائم المرتكبة من قبل فاعلين بالدولة.
إن تجاهل أحداث 3 و8 يونيو 2014 ضمن سلسلة قضية العنف الجنسي يطرح إشكاليات عدة حول: كيف يرى الفاعلون تلك القضية وكيفية معالجتها. فمن يرون أن نساءً لسن على نفس قناعتهم السياسية يستحققن الاغتصاب في شوارع نزلن إليها ليحتفلن هم أناس ينتهجون مسار استغلال قضايا النساء، ولا يساهمون في بناء مجال عام آمن للجميع، ومن يتسامح مع مجرمين اغتصبوا نساءً وحرّقن أجسادهن، بل وفقدت إحداهن القدرة على البصر، فقط لأنهم لا يعتدّون بتلك السلطة السياسية وإجراءاتها، دون النظر لتفاصيل تلك القضية، فهو يجسد الظلم بعينه.
إن الاهتمام بقضية الانتهاكات التي حدثت في تجمع الاحتفال بالرئيس السيسي جاء نتيجة إرادة سياسية لا شك في ذلك، وهنا يظهر السؤال حول الإرادة السياسية والدور المنوط بالدولة بعدم الانتقائية، وأهمية تغيير الإجراءات القانونية المتعلقة بمثل هذه القضايا التي تعد قاصرة ومهينة للنساء في أغلب الأوقات، وتنتهى بحكم لا يُجَرِم الاغتصاب، لأن النصوص الحالية لقانون العقوبات المصرى معيبة وتفتقد لنظرة كلية لمعاقبة كل من ارتكب هذا الجرم، كما تفتقد الإجراءات الوقائية لضمان عدم حدوث هذا الجرم مرة أخرى. ولكن تلك الدولة لم تهتم بالعمل على محاسبة حقيقية لمرتكبي الجرائم، فقد رفضت لجنة تقصى الحقائق المشكلة للتحقيق في الأحداث إنشاء لجنة مختصة للتحقيق في تلك الجرائم، وهي ما كانت إحدى التوصيات التي تقدمت بها منظمات ومجموعات نسوية لضمان تحقيق شامل في جرائم العنف الجنسي التي حدثت خلال الفترة من 30 يونيو إلى 7 يوليو 2013، وكان قد تم رصد 174 حالة اعتداء جنسي جماعي من بينها حالات اغتصاب جماعي.
أيضا التساهل مع خطاب التصور، ولو على نحو ضيق، أن معاقبة 8 مجرمين كافي، يظهر عدم وضوح رؤية الكثيرين عن معنى القانون ودوره في محاربة ظاهرة متفشية، فالقانون ليس إلا وسيلة للتجريم ومعاقبة أفراد ارتكبوا جرمًا فادحًا. وتعد الأحكام التي تم إصدارها متماشية مع التهم التي تم توجيهها إلى الجناة، بناء على تهم أخرى غير المتعلقة بالاعتداء الجنسي الجماعي، مثل الشروع في القتل والاختطاف وغيرها. وبالطبع الحكم وحده لا ينهى ظاهرة، بل يساعد على المضي فى معرفة مشكلات هذا القانون وتجريم الظاهرة مجتمعيا.
اكتفاء الدولة بتجريم 7 مغتصبين، دون الالتفاف لتعديل القوانين المتعلقة بالعنف الجنسي ومحاسبة باقي المتورطين في مثل هذا الجرم من داخل أجهزة الدولة وخارجها، وإقرار إستراتيجية واضحة ومعلنة لمكافحة العنف، هو غياب أصيل لمسؤولية الدولة.
وتعامل النشطاء والسياسيين، مع وجود إرادة سياسية منقوصة، باعتبار قضايا النساء هي شأن الدولة وليست جزء أصيل من حركة اجتماعية وسياسية، يُفشِل جهود عدة تعمل على استقلالية تلك الحركة ودورها.
فلندافع عن مجال عام آمن لجميع النساء، فمن حق النساء أن يكون لديهن مساحة لطرح اختلافاتهن السياسية أو طرح تناقضات خطابهن وليس لقمع واغتصاب أجسادهن ليصبحن هن وقضاياهن أمرًا ثانويًا لا يأبه به مجتمع كامل.
* تم نشر هذه المقالة على موقع مدى مصر بتاريخ 1 ديسمبر 2014.