منذ أيّام قليلة طالعتنا صورة الصديقة، الكاتبة والمدافعة عن حقوق الإنسان نادين شمس، والتي فارقت الحياة في مارس 2014 نتيجة إهمال طبي جسيم، وذلك من خلال معرض صور تم إطلاقه على شبكة الإنترنت من قبل منظمة نسوية دولية بمناسبة انطلاق حملة الـ16 يوماً (25 نوفمبر- 10 ديسمبر من كل عام) العالمية لمواجهة العنف ضد النساء، وكنوع من التكريم لـنادين وما يقرب من 170 نسوية ومدافعة عن حقوق الإنسان من جميع أنحاء العالم، واللائي لم يعدن موجودات بيننا اليوم وتركن ورائهن مساهماتهن في محاولة جعل العالم مكانًا أفضل حيث احتوىالمعرض على صور لكل منهنّ وتعريف بمساهماتهن في مواجهة العنف والتمييز.
على صعيد آخر وأيضًا في إطار نفس الحملة الدولية بدأت يوم الخامس والعشرين من نوفمبر فعاليات حملة "قانون نشاز" والتي ينظمها «نظرة للدراسات النسوية» ومركز قضايا المرأة المصرية لمناهضة كافة أشكال العنف التي تلاحق النساء ما بين المجال الخاص (ختان، عنف أسري، إلخ) وبين المجال العام (تحرش، اعتداءات جنسية، اغتصابات جماعية، إلخ) في ظل مباركات مجتمعية، وتبريرات قانونية وتطبيع إعلامي، بل وإبداعي في أحيان أخرى مع تلك الموجات المتصاعدة من العنف تجاه النساء.
ليست حملة الـ16 يومًا هي الرابط الوحيد بين الحدث الأول والثاني، خاصة عندما نعلم أن نادين شمس كانت واحدة ممن حاولن الوقوف في مواجهة أحداث الاغتصابات الجماعية التي تعرضت لها مئات من النساء بكثافة في محيط ميدان التحرير على مدار العامين الماضيين، حيث تطوعت نادين مع "قوة ضد التحرش" في 2013 وانضمت لمجموعات التدخل التي كان دورها يقتضي اختراق دوائر المعتدين جنسيًا لإخراج الناجية من الاعتداء.
لم يكن هذا غريبًا أو جديدًا على نادين التي فعلت ذلك انطلاقًا من إيمانها بأهمية الوقوف في وجه عنف لا يهدد فقط أمن النساء الشخصي بل وأيضًا مساحاتهن ومكتسباتهن السياسية والتنظيمية والاجتماعية. هذا الإيمان وتلك القناعات التي كانت تملكها نادين لم تحدد فقط خطواتها فيما يتعلق بالعمل العام والأنشطة التطّوعية بل شكلّت اهتماماتها على مستوى الكتابة الإبداعية، حيث يمكننا القول أن نادين شمس تنتمي إلى جيل من الكاتبات، والمخرجات، والممثلات بل ومديرات التصوير أيضًا (نانسي عبدالفتاح مثالًا) اللائي نجحن على مدار السنوات الأخيرة في أن ينتزعن مساحات إبداعية تصب في صالح النساء وقضاياهن بشكل يتجاوز كثير من الإشكاليات التي عادة ما تصاحب مثل هذا النوع من الأعمال الإبداعية والتي توارثتها الأجيال الفنية لسنوات طويلة في مصر. مع ذلك تظل لمساهمات الكاتبات الثلاث (وسام سليمان ونادين شمس ومريم نعوم) أهمية خاصة بقدر أهمية ما طرحنه ودافعن عنه. في السطور التالية محاولة لمراجعة تلك المساهمات عن قرب، محاولة لا تعتمد على سرد كل أعمالهنّ بقدر ما تحاول إعادة استكشاف علاقة ما قدمنه بسعي النساء اليومي لمقاومة أشكال التمييز الاجتماعي والعنف المختلفة.
وسام سليمان.. هنّ في مواجهة المكان:
«أحلى الأوقات» (2004): كانت المرة الأولى منذ سنوات التي لا يتم اللجوء فيها إلى كتاب "كيف تصنع فيلمًا عن النساء؟" بل وكان هناك سعيًا حقيقيًا للابتعاد عن بهارات الافتعال، التلفيق والخطابية في محاولة من وسام سليمان لأن تكون مخلصة للغة السرد السينمائي بما تحمله من خصوصية إبداعية في الوقت نفسه الذي سعت فيه لخلق مساحة ومتنفس على الشاشة لنسائها الثلاث (سلمى، ويسرية وضحى) ورحلاتهنّ اليومية في ملاحقة أحلامهن بما تضمنته من هزائم وانتصارات وإن بدت بسيطة إلا أنها لم تكن مفتعلة بل كانت خطوات صغيرة على الطريق نحو الحلم الكبير. لذا لم يكن غريبًا أن تظل جملة "بس أنا عايزة ورد يا إبراهيم" عالقة في الأذهان لسنوات، فهي في النهاية مثال على محاولة سينمائية طموحة لتوصيف حلم "يسرية" في الحصول على حقها في ظل عالمها سريع الخطى، محدود الإمكانيات والمثقل برحلات يومية من المهام والسعي.
«بنات وسط البلد» (2005): لم يكن الفيلم مجرد حكاية سينمائية أخرى عن شابات يسعين وراء لقمة عيش ويكافحن للإبقاء على توازنهن الاقتصادي وإنما كان قراءة سينمائية لعلاقتهن هنّ وأجسادهنّ، أحلامهنّ ونصيبهنّ من الخوف بالأماكن التي تدور بينها أحداث حياتهنّ، والمقصود بالمكان هنا ليس فقط حدوده الجغرافية بل قوانينه الاجتماعية المتغيرة، وافتراضاته الأخلاقية وأبعاده السياسية، لتظل وسط البلد في الفيلم أشبه بالمساحة التي بقدر ما تمنح لهنّ خيالات تحررية وفرص للتعبير عن بعض الأحلام، بقدر ما تحمل لهنّ في شوارعها خوفًا تجسده عشرات النظرات، والكلمات والأفعال التي تسعى للنيل من أجسادهنّ.
«فتاة المصنع» (2014): لم يكن حلم "هيام" مختلفاً بشكل كبير عن أحلام زميلاتها ممن يعملن في المصنع واللائي يعرفن جميعًا، ومعهن هيام، عن الفقر أكثر مما يعرفن عن أنفسهنّ، فحلمها لم يتجاوز قصة حب لكن ذلك الحلم قضى نحبه في لحظة اصطدامه الأولى بالواقع دون أن نعلم بشكل يقيني ما إذا كان ذلك لكونها تجرأت وأحبت شخصًا أعلى من واقعها الاقتصادي والاجتماعي أم لأنها باحت وصرّحت بما اعتبرته حقًا لها ودافعت عنه بقوة بينما كان المنتظر منها مجتمعيًا هو الصمت. لم يكن «فتاة المصنع» مجرد فيلم يقدم تحليلًا لمفاهيم الشرف أو نقدًا لقوانين العذرية بقدر ما كان دفاعًا مستميتًا عن شرعية الأحلام وعدالتها حتى لو كانت النهاية هزيمة على يد الفقر وقوانين لا تفرض إلا على النساء.
نادين شمس.. تحالفات صغيرة.. أحلام كبيرة:
«إحنا اتقابلنا قبل كده» (2008): أنت هنا أمام قصة ثلاث نساء ما بين "سارة/ نيللي كريم" التي اكتشفت خيانة زوجها لها، وبين "داليا/ كارولين خليل"، المرتبطة عاطفيًا بشخص يحبها ولكن لديها تحفظات على مشروع الزواج أو حتى "أمل/ راندا البحيري" التي تبدو وكأنها "سنيدة" لمشروع حبيبها الفنّي. هنا تأخذك نادين شمس في رحلتها لتقديم طرحًا دراميًا يحترم اختيارات النساء ويسعى لتقديم بدائل غير مستهلكة اجتماعيًا. فـ"سارة" تكتشف أن زوجها ليس هو حجر الأساس في قصتها بل هي، وأن تلك الزيجة ليست هي معركتها الأولى أو الأخيرة في الحياة. أمّا "داليا" فموقفها من الزواج كمؤسسة اجتماعية هو موقف أصيل، وأيًّا كانت الأسباب لم تكن نادين شمس لتلوي ذراع ذلك الموقف لتقدم للمتفرجين نهاية تحمل حفل زفاف ملفق في سابقة تكاد تكون الأولى سينمائيًا.
أهمية «إحنا اتقابلنا قبل كده» لا تتمثل فقط في نوعية القضايا المرتبطة بالنساء والتي طرحها الفيلم وإنما في تلك التحالفات الصغيرة التي تجدها بين نساء الفيلم، والتي ستجدها متكررة بشكل أو بآخر في أعمال أخرى لـنادين، فالذي ربط بين "داليا" و"سارة" لم يكن مجرد صداقة بل كان في جوهره أشبه بتحالف يقوم على دعم غير مشروط لا يحمل في طيّاته وصاية أو سلطة وإنما يمد نساءه بالقوة الكافية لدعم اختيارات وأحلام كل منهنّ.
«كلام نسوان»(2009): لا يمكنني الزعم بالطبع بأن المسلسل يحمل بصمة نادين من أول لقطة وحتى اللقطة الأخيرة، خاصة وأنه كان نتيجة لورشة كتابة أشرفت عليها عزة شلبي. ولكن إذا تابعناه عن كثب يمكننا القول بأنه حمل في طياته ملامح لمشروع "نادين شمس ومريم ناعوم" الكتابي حيث ربط قضايا نسائه بالسياقات السياسية والاقتصادية التي يمثلنها وإن كانت أهمية «كلام نسوان» تأتي من اتساع هذا الربط ليشمل سياقات عربية أخرى، حيث لم يكن مقصورًا فقط على طرح قضايا محلية. كانت هناك محاولة جدية لتقديم عمل مختلف ولإيجاد طريقة سرد تحترم خصوصية قصة كل من النساء الأربع (ناهد، وبتول، ومها ونادين) دون محاولة استخلاص نتائج عامة أو تنميطات تُفقِد القصص معناها، وإن كان أهم ما يحسب للمسلسل هو قدرة كاتباته، وفي مقدمتهنّ نادين، على صياغة تلك الحالة من التضامن العفوي غير المستهلك بين النساء الأربع في مواجهة منظومة من القمع، السلطة المجتمعية والظلم التي تحاول النيل من اختياراتهنّ.
مريم نعوم.. نضالات يومية:
«واحد صفر» (2009): أهمية الفيلم ليست فقط في تحليله الفني لتحولات مجتمع مأزوم تم رصدها في لحظة مكثفة زمنيًا ودراميًا، حيث تدور أحداث الفيلم في يوم حصول مصر على كأس الأمم الأفريقية 2008، وإنما تظل أهميته الحقيقية متمثلة في قدرة "مريم" على وضع نسائها الأربع (ريهام، ونيفين، وهدى ونينا) في صدارة المشهد وكأنّهن كنّ البوصلة التي اعتمدت عليها في ترسيم علاقات القوى اقتصاديًا واجتماعيًا داخل الفيلم الذي رصد رحلة كل منهنّ ما بين محدودية وظلم الواقع وبين الثمن الباهظ للاختيارات الشخصية دون التورط في إصدار أحكام أخلاقية على أيٍّ منهن. كذلك يحسب للفيلم قدرته على عرض الأشكال المختلفة لانتهاكات جنسية تتعرض لها النساء سواء من قبل سلطة الأمن أو نفوذ رأس المال، بالإضافة لأن تلك كانت المرة الأولى تقريبًا التي يتم فيها التصدي لأوضاع المسيحيات في ظل إشكاليات تشريعات الزواج والطلاق.
«ذات» (2013): عن رواية صُنع الله إبراهيم صاغت مريم نعوم أحداث المسلسل الذي لم يحصر "ذات" في زاوية الراوية للأحداث بل اعتبرها المرأة التي يرى من خلال تحولاتها، واختياراتها، وهزائمها وانتصاراتها كثير من التحولات الاجتماعية والسياسية التي مرت بها في مصر منذ الخمسينيات وحتى قيام ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011.
لم تصنع مريم من "ذات" أو غيرها من النساء داخل العمل أنماطًا تتحول بين خير مطلق وشر مطلق، بل نجحت في صياغة شخصيات نسائية تختلف عن بعضها البعض، فلكل شخصية معركتها ونضالها الخاص بها ولكل شخصية اختياراتها السياسية والاجتماعية. لتجد نفسك مرة أخرى أمام عمل قادر على رؤية تحديات النساء بشكل عميق قائم على تفاصيل مرسومة بدقة تخلو من استسهال أو ابتذال لمعنى الاختيارات.
«سجن النساء» (2014): أنت هنا أمام عمل مأخوذ عن مسرحية للراحلة فتحية العسّال، حيث نجحت مريم نعوم في رسم لوحة فنية متكاملة بها ألوان وأطياف وحكايات شتى عن نساء تحمل كل منهن رحلة القهر والاختيارات الخاصة بها، سواء كنا نتحدث عن "غالية" أو "رضا" أو "دلال" أو "زينات" وغيرهن من شخصيات في عمل تليفزيوني يتساءل بسعي حقيقي نحو المعرفة عن معاني العدالة والقانون في علاقتهم بالنساء. يظل أهم ما يميز مريم نعوم والذي يبدو واضحًا جدًا في هذا العمل هو إيمانها باختيارات النساء، ذلك الإيمان الذي يبدو وكأنه يحافظ على طريقة رسمها للشخصيات بحيث لا تتورط في إصدار أحكام أخلاقية على أيٍّ منهنّ، خاصة وأنها مشغولة هنا بإزالة الحواجز بين السجن وبين العالم الذي يقع خارجه، فأشكال الظلم تجاه النساء تتشابه سواء داخل السجن أو خارجه.
* تم نشر هذه المقالة على موقع مدى مصر بتاريخ 4 ديسمبر 2014.