نسويتي.. والفن.. والخروج من العزلة

فاطمة منصور
منسقة المبادرات

تدوينة

13 نوفمبر 2014

يعني إنتي تخصصك إيه؟ يعني إيه جندر ونوع إجتماعي؟ نسوية؟! يعني جاية من نسوان؟ وإشمعنا دراسات المرأة؟ يعني التجميل والموضة والحمل والولادة وكده؟

غالبًا ما أواجه هذه الأسئلة التي في معظم الأحيان ما تُسأل بحسن نية وعن عدم دراية صادقة بماهية النسوية ومفاهيمها المختلفة.. ولطالما شعرت بالإحباط حينما لم أجد المفردات المناسبة التي تسعفني لشرح سلس غير أكاديمي عما تعنيه تلك المصطلحات.

كيف لي أن اشرح للسائل بكلمات بسيطة مختصرة أننا لا نولد نساءً ورجالاً وإنما نتربَّى على ذلك بمعايير تفرضها علينا المجتمعات التي نعيش فيها، وأن صفاتنا البيولوجية كذكور أو إناث لا تحمل بالضرورة معها أقدارنا أو تحدد أدوارنا الاجتماعية التي نمارسها في حياتنا اليومية، وأن تلك الأدوار تتشكل أثناء نشأتنا ويفرضها علينا المجتمع وكأنها جزء من المُسَلَّمات غير القابلة للتغيير أو التفاوض، وأن دراسات النوع الاجتماعي تسمح لنا بتحدي هذه القوالب والأنماط ودراسة أسباب الظلم والتمييز القائم على أساس كوننا نساء أو رجال في المجتمع، وأن النسوية هي مجموعة من الحركات والأيديولوجيات التي نشأت في أماكن مختلفة من العالم، والتي تسعى في مجملها لمحاربة الظلم والعنف والتمييز الواقع على المرأة بشكل خاص، والسعي نحو بناء مجتمعات تؤمن بتساوي الفرص في الحقوق والواجبات بين جميع الأفراد بغض النظر عن جنسهم أو عرقهم أو ديانتهم.. والأهم من كل ذلك أن النسوية ليست حكرًا على النساء حيث أنها منهج تفكير لو آمن به أي شخص فهو نسوي حتماً.

ولكني غالبًا ما أجد نفسي ألجأ إلى استخدام مصطلحات واسعة وفضفاضة وتكون الإجابة "باشتغل في مجال حقوق المرأة اللي هي جزء من حقوق الانسان وكده".

النسوية والمزيد من الأسئلة

أدركت اهتمامي بقضايا النوع الاجتماعي والنسوية منذ سن مبكرة، حيث وجدت نفسي أرفض تلقائيًا القبول بتلك القوالب والأنماط التي يفرضها علينا المجتمع لماهية أنوثتنا وذكورتنا والتي ينتج عنها الكثير من الظلم والتمييز والكبت بدوافع مختلفة، تارة باسم الدين وأخرى باسم التقاليد وأشياء أخرى.

وكنت أتساءل: لماذا كإمرأة أضطر لخوض الكثير من المعارك المصيرية، حتى مع أقرب الناس لي، فقط لكي أتمتع بقدر من الحرية التي يمتلكها الرجل منذ ولادته؟ لماذا يسلب حقي في اختيار كينونتي كما أشاء؟ لماذا يجب عليّ الامتثال لتلك القوالب والقوانين التي تتحكم بملبسي، وتحركاتي، وأسلوب كلامي، وطريقة تفكيري، وطريقة التعبير عن مشاعري، وحتى حدود طموحي؟

ولماذا في الوقت نفسه نجد الرجال يعيشون في حالة تهديد دائم لرجولتهم التي يتم اختزال معانيها في مجموعة محددة من الأفكار والتصرفات والسلطات التي يجب على كل الذكور الامتثال لها بكل صرامة؟ ولماذا يتم تجريدهم من تلك الرجولية الزائفة لو حاولوا مجرد التفكير أو العيش خارج هذه القوالب؟

وتنامى عندي فضول أن أعرف ما هو سر هذه التراكمات في انعدام العدالة عبر التاريخ، وحين قررت الدراسة بتعمق في تخصص النسوية والنوع الاجتماعي كنت آمل أن أحصل على إجابات لتساؤلاتي، ولكن وجدتني كلما تعمقت في دراستي، ازددت حيرة وزادت التساؤلات بدلًا من أن تتقلص، فتجد أن أسباب الظلم والتمييز متعددة ومتشابكة يتم تكرارها وإعادة إنتاجها عبر الأجيال داخل منظومة اجتماعية ودينية واقتصادية وسياسية معقدة تحتاج الكثير من الجهود على جميع الأصعدة فقط للكشف عنها والاعتراف بوجودها.. فما بالنا بالعمل على تغييرها.

إبتزاز النسوية.. لماذا؟

رغم متعتي وشغفي بنظريات وأبحاث وتجارب الفكر النسوي في العالم إلا أنني أصبحت أكثر نقدًا وبعدًا ورفضًا واغترابًا عن واقعي وألقيت نفسي في عزلة فكرية داخل قوقعتي التي أرى بها العالم بشكل مختلف وأدركت أن لغة النسوية بعيدة عن الواقع بعكس قرب مبادئها من الناس وهمومهم، حيث أصبح مجرد تعريف ماهية ما أعمل من أجله وأؤمن به من الصعب شرحه.

ولأننا نعيش في مجتمعات نميل فيها إلى تنميط وقولبة الأشياء والأشخاص الذين نقابلهم في حياتنا ليسهل لنا الحكم عليهم مسبقًا ومعرفة كيفية التعامل معهم، ربما لنوفر على أنفسنا مشقة التعرف عليهم بشكل صادق من دون أحكام مسبقة، فتجدنا نادرًا ما نجيد فن الإصغاء وليس مجرد الاستماع، نستقبل ما يقوله الشخص الآخر عبر مرشحات تفكيرنا وتجاربنا النمطية التي قد لا توصل بالضرورة حقيقة الطرف الآخر، نجد أن الأفكار النسوية تواجه الكثير من الهجوم الشرس والانتقادات غير المبررة والكثير الكثير من الأحكام المسبقة، خاصة من أكثر الناس جهلًا بها.

يرى الكثيرون أن النسوية فكر مستورد يقصد به تهديد بنية المجتمع، فأصبحت كلمة لصيقة بكل ما هو عيب وعار. يعتقد الكثيرون أن معتنقي ومعتنقات هذا الفكر هم أشخاص مليئين بالعقد النفسية والكُره خاصة تجاه الرجال. هذا رغم أن النضال من أجل الحرية والعدالة والمساواة واحترام وقبول الآخر ومحاربة الظلم والتمييز على أساس النوع أو الجنس، له تاريخ عريق في المنطقة حيث أن تاريخنا يزخر برائدات ورواد في هذا المجال ولا نحتاج لأفكار نستوردها من الخارج.

وتعم تلك المشكلة فتجد النسويات حول العالم (بدرجات متفاوتة بالتأكيد) في حالة ابتزاز دائم من قبل المجتمعات لتبنيهن هذا الفكر الذي يرفض التنميط ويشجع كسر تلك القوالب المصمتة، فأصبحت النسوية كلمة مشبوهة يتحاشى البعض وصف أنفسهم أو أنشطتهم بها، وأصبح الإنتاج الفكري والأنشطة النسوية المختلفة محصورة في فئة صغيرة من المجتمعات الواعية بتلك القضايا وباتت صعبة الوصول لعامة الناس.

فمن خلال عملي في نظرة للدراسات النسوية، وهي من المجموعات القليلة التي رفضت هذا الابتزاز والتواطؤ المجتمعي ضد الفكر النسوي حيث يعمل فريق نظرة بلا هوادة لبناء حركة نسوية مصرية وعربية من خلال أنشطة مختلفة، تسنت لي الفرصة لأقوم بإدارة مشروع فني لإنتاج مجلة كوميكس نسوية الفكر تخاطب فئة الشباب: مجلة "الشَّكمجيَّة".

الشكمجية

وضعت كل أسئلتي وإحباطي وحيرتي على المحك. كيف لي أن أقنع الفنانين والفنانات الذين لا ينتمون بالضرورة  للفكر النسوي بالعمل معي؟ وإن نجحت في ذلك، ما هي الطريقة المثلى لتناول الموضوعات الاجتماعية الشائكة بشكل قصص مصورة قابلة للهضم من قبل فئات مجتمعية لم يسبق لها التعرف على هذه الأفكار من قبل؟ ما هي الطريقة التي تجعل المجلة مرغوبة وناجحة في توصيل الأفكار من دون استخدام النمط التقليدي المباشر في تلقين المعلومات؟

ولكن لمفاجأتي وجدت في الفن كل الإجابات، ووجدت في تجربتي هذه بصيصًا من الأمل للخروج من نفق العزلة. يكمن جمال هذا المشروع في أنه لا يلجأ لاستخدام أدوات تقليدية في النضال من أجل الحريات وتحسين وضع المرأة: بدءًا من المشاركة السياسية والمناصرة القانونية محليًا وعالميًا وانتهاءً بالمؤتمرات والورش العلمية والأكاديمية، بل يستخدم الفن كوسيلة وغاية في الوقت نفسه لنشر الوعي النسوي.

أدركت القوة الكامنة في الفن كوسيلة ولغة كونية تسمو فوق كل المسميات والأيديولوجيات، وتفهمها كل الإنسانية باختلاف أطيافها، وسعدت بالعمل مع مجموعة رائعة من الفنانات والفنانين، حيث استطعنا معًا تجاوز كل الخلافات وبناء جسور الحوار والتفاهم بواسطة لغة الفن والأدب. بات الفن أداة الحوار التي تمكننا من ملامسة همومنا المشتركة سواء باسم النسوية أو بمسميات أخرى.

ووجدتني أخيراً قادرة على ممارسة نسويتي ببساطة والتعبير عنها بسلاسة من دون الحاجة لاستخدام قاموسي الأكاديمي وإطلاق المسميات أو رفع الشعارات التي ربما تفقدني أمل التواصل مع الآخر.

ولدت "الشَّكمجيَّة" كأول مجلة كوميكس تناقش قضايا الشباب من منظور نسوي حقوقي  في 28 أكتوبر 2014، وخترنا أن نسميها "الشَّكمجيَّة" لأننا نعتز بكل الأعمال الفنية التي تحتويها المجلة وهي عزيزة علينا كالمجوهرات والحلي وكل الأشياء القيمة التي نحتفظ بها داخل شكمجية كل بيت، كل عدد من أعداد "الشَّكمجيَّة" يحمل في طياتة قضية أو إشكالية اجتماعية معينة يتم تغطيتها من جوانب مختلفة من خلال القصص المصورة والكاريكاتير والمقالات.

اخترنا أن نناقش في العدد الأول من "الشَّكمجيَّة" قضية التحرش والعنف الجنسي ضد المرأة. هذا لا يعني بالضرورة أن الرجال لا يتعرضون لأي نوع من أنواع العنف ولكن لا يخفى على أحد أن حوادث التحرش والعنف الجنسي ضد النساء قد أصبحت ظاهرة متفشية كالوباء في ظل إنكار وتواطؤ مجتمعي مخزي، ومن هنا كانت الحاجة الملحَّة لتناول هذه القضية بشكل جديد على أمل أن تجد صدى لدى الناس.

و كما ساعدتني "الشَّكمجيَّة" في الخروج من عزلتي الخاصة، أتمنى أن تساهم المجلة ولو بقدر بسيط في رفع الوعي وخلق حالة من الحوار المجتمعي الخلاَّق والبنَّاء وكسر الصمت والإنكار حول مختلف القضايا.

لمزيد من المعلومات عن المجلة وطريقة الحصول عليها، الرجاء زيارة صفحة "الشَّكمجيَّة" على الفيسبوك: https://www.facebook.com/shakmgia أو راسلونا عبر الإيميل: [email protected]

* تم نشر هذه المقالة على موقع مدى مصر بتاريخ 13 نوفمبر 2014.

رابط دائمhttp://nazra.org/node/370