تتعرض الفتيات والسيدات في كل من المجال الخاص والعام في مصر إلى العنف الجنسي بأشكال متعددة ومتنوعة. ويتعرضن له سواء كن ناشطات وفاعلات في المجال العام في مجالات متعددة، منها الدفاع عن حقوق الإنسان، أو حتى خلال مرورهن بالشوارع والميادين.
وحين تتعرض النساء لتلك الجرائم البشعة مثل: كشف العذرية أو الاعتداء الجنسي أو الاغتصاب، أو الاعتداء الجنسي الجماعي أو الاغتصاب الجماعي أو الكشف المهبلي أو الاغتصاب الفموي أو الشرجي أو التحرش الجنسي، يهرع الجميع لوصفهن ووصمهن بـ"الضحايا". ومنطلق تعريفهن بأنهن ضحايا هو نتيجة لممارسة اعتيادية من مجتمع أبوي يتبنى قيم ذكورية تهدف لتسليط الضوء على الجرم أو الانتهاك الذي تم ارتكابه ضدها من منظور جنسي، حيث يتم التركيز على الجانب الجنسي للجريمة وتجاهل واقع أنها جريمة عنف، ويصل في أحيان كثيرة إلى حد التشهير بهن ولومهن على الجريمة التي تعرضن إليها.
يقوم هذا الوصم بمضاعفة العبء على الناجيات على مستويات عديدة؛ حيث تضطر الناجية في هذه اللحظة لأن تتغلب على كرب ما بعد الصدمة المتعلق بالجرم والانتهاك نفسه، ثم التغلب أيضًا على الصراع الداخلي حيال شعورها بالذنب من جراء ما مرت به، وهذا الشعور بالذنب هو نتاج تعرضها للمفاهيم السائدة عن جسدها منذ سن صغيرة، فهي تتربى على أن جسدها عبء مجتمعي يتسبب في إلحاق الخزي والعار بالعائلة وعاداتها، لذلك تتحير الناجية حول ما إذا كان من الفطنة أن تفصح عما تعرضت له لأسرتها والمقربين منها أم لا، أو التحدث عنه بشكل عام، وتتفاقم تلك الحيرة عادة نتيجة لشعورها بالمسؤولية تجاه مجتمع يمر بسياق سياسي ومجتمعي معقد، بحيث يُستغل وجود النساء ومشاركتهن في المجال العام، مع تجاهل واضح لسلامتهن الجسدية وحقوقهن.
ولكن قبل أن يتم طرح مبادئ أساسية لنظام الإغاثة أو التأهيل الخاص بالناجيات، والذي يتوجب تضمينه في الاستراتيجية الوطنية التي طالبت بها العديد من المنظمات والمجموعات النسوية للتصدي لجرائم العنف الجنسي في المجتمع المصري، ينبغي أن نتعمق في فهم العملية البدنية والنفسية التي تمر الناجيات بها منذ لحظة وقوع الجرم وحتى عملية التعافي التي تحدث بعدها.
تدرك الناجية بعد الصدمة أن حياتها تغيرت للأبد، وتُعد محاولة فهم كيفية المضي في حياتها خطوة أولية هامة للغاية. والبعض منهن يواجهن صعوبات بالغة في ترتيب حياتهن مجددًا، وذلك ينطبق بشكل كبير على الناجيات اللاتي يواجهن مشاكل أخرى في حياتهن كالفقر أو كونهن في علاقات يتعرضن فيها لسوء المعاملة.
والجدير بالذكر أن عملية التعافي عملية بطيئة ولا تمضي في خط واحد، وتتطلب شجاعة بالغة لجمع شتات حياتهن.
وتتباين عملية التعافي من ناجية إلى أخرى، قد تبدأ تلك العملية فور ارتكاب الجريمة أو بعدها بـ 25 عاماً. كما أن التعافي لا يتمحور حول نسيان الجريمة التي تعرضن لها، وعادة ما تسترجعها الناجيات فور أن تطرأ إشكاليات جديدة في حياتهن أو يتم استرجاعها بعوامل محددة مرتبطة بهن أو مع الارتباطات والعلاقات الجديدة، كما أنه يوجد توازن حقيقي بين العمل على التعافي والمضي في حياتهن.
ومن أجل أن نستطيع تفهم الرحلة القاسية التي تمر بها الناجيات، يجب علينا فهم طبيعة تلك الجرائم. تتسم تلك الجرائم بلا شك بالعنف الجسدي المفرط، مما يزيد من تعقيد علاقة الناجيات بأجسادهن. تثبت تجاربنا الميدانية أن أغلب الناجيات من الاعتداءات الجنسية الجماعية والاغتصابات الجماعية يعانين من إصابات جسدية قد تتسبب في تغيير نمط حياتهن ربما للأبد نتيجة للطبيعة العنيفة لتلك الجرائم، مثل ثقب في مراكز أبصارهن، أو اللجوء إلى عمليات جراحية لإزالة الرحم لإنقاذ حياتهن من نزيف مميت، أو إصابات بالفقرات يترتب عليها عدم القدرة على القيام بأنشطة محددة، إلخ، ومنهن من يعانين من حروق وسحجات حادة تتسبب في إصابتهن بندبات في مناطق متفرقة بأجسادهن، لتظل تذكرهن بما تعرضن له.
لا يتوقف صراعهن مع أجسادهن عند هذا الحد، بل تأتي اللحظة التي يمرون بما يمكن اعتباره صراع هوياتي، بحيث يشعرن بأن هويتهن حُددت بكونهن "ضحايا" (بحسب المجتمع والإعلام) أو "ناجيات" كما نصر نحن، وعادة تكون هذه أصعب اللحظات وأكثرها ارتباكًا، والتي يحاربنها طوال حياتهن على مدار يومي أو فترات متباعدة، ويزيد من صعوبة وتأزم تلك المرحلة ردود أفعال من حولهن.
عادة ما يعتقد البعض أن الطريق لمساعدتهن هو التركيز على تعاطفهم بحيث يقدمون لهن الدعم من خلال التعامل معهن على أنهن ناجيات، ولكن ذلك التعامل قد يجعل الناجية تؤمن بالفعل بأنها عالقة بتلك الدائرة المغلقة اليومية التي تفرض عليها أن تؤمن أن حياتها قد انحصرت في لحظة الانتهاك، وقد يؤدي ذلك إلى جعل الناجيات فريسات للخطابات الحمائية الذكورية التي تركز على ضرورة حماية النساء لكونهن كائنات هشة لا تستطيع المضي في الحياة بدون وجود رجل يقوم بحمايتهن، مما يزيد من تهميشهن وشعورهن بالخزي أكثر لكونهن نساء.
وهناك عوامل بنيوية تعزز من تبني الخطاب الحمائي المُشار إليه، والذي يتسبب في الشعور الدائم بالخزي لدى الناجيات، فقانون العقوبات المصري لا يعترف بالاغتصاب سوى الذي يحدث عن طريق إيلاج العضو الذكري بالمهبل. أما الاغتصاب بالأصابع والآلات الحادة والاغتصاب الفموي والشرجي فيُعَرَّف بهتك العرض، فبالرغم من أن الاغتصاب جريمة بغض النظر عن كيفية القيام بها، يعترف قانون العقوبات المصري بالاغتصاب في السياق التقليدي فقط والذي يحتوي على الممارسات الذكورية التي تعزز من جعل تلك الجرائم بوصفها جرائم "جنسية" وليست جرائم "عنف". وبذلك فإن تلك التعريفات القانونيه المعيبة تعزز من الوضع السلطوي للذكور، ودائمًا ما يشار إلى الناجية على أنها "المجني عليه" أو "الضحية" مما يزيد من إضعافهن.
هناك أيضًا اختلاف في رد الفعل المجتمعي تجاه الناجيات، إذا كان الانتهاك تم ارتكابه من قبل الدولة، أو أفراد في المجتمع. وذلك التباين في ردة الفعل يؤدي إلى نتيجة واحدة، وهي فرض الشعور بالعار على الناجيات. ففي حالة الجرائم المرتكبة من قبل الدولة، سواء كانت كشوف العذرية أو الاعتداء الجنسي أو الاغتصاب الفموي أو الكشف المهبلي، يقوم الجميع بلومها على تحدي ليس السلطة فحسب، بل تحدي كونها إمرأة والدور التقليدي للنساء الذي يحدده المجتمع من حولها، والتعجب من جرأتها على الوقوف أمام ما يرمز إلى الاحترام والسلطة والحق، ويقومون بالتشكيك دومًا في نواياها وكونها "غير محترمة" لأنها لا تنصاع إلى الأدوار التقليدية في المجتمع وتتجرأ لمواجهة السلطة والمطالبة بحقوقها.
واعتمادًا على السياق السياسي حينذاك، فدائمًا ما يحتفي الفاعلين في المجال السياسي بالمرأة للوصول إلى غاية سياسية ما، ثم يتبرأون منها كأنها مصابة بالجزام.
أما بالنسبة للجرائم المرتكبة من أفراد من المجتمع بشكل عام، فيتم تجاهلهن تماما، ولا يتحدث أحد عن تلك الجرائم لعدم تلويث سمعة النضال وأي شيء يرمز إليه، وهو أيضًا مرتبط بتغليب مصالح سياسية وعامة على حقوقها.
فقامت أغلب القوى السياسية بتجاهل تلك الجرائم إبان ٢٥ يناير ٢٠١١ و ما تلاها من تظاهرات حتى لا يتم تلويث سمعة الميدان وعدم التاثير على أعداد المشاركين في التظاهرات المختلفة. وفي الواقع، الإفلات من العقاب المستمر يصعب النضال الذي تمر به الناجيات جراء ما تعرضن له، فيشعرون بالظلم والعار وعدم الاهتمام.
إن السياق العام والإمكانيات المتاحة التي تسهل من إعادة تأهيل الناجيات إلى مجتمعاتهن عوامل أساسية، ولكن الإرادة السياسية لمن حولهن ومدى توفر دوافع حقيقية للاهتمام بالقضية المعنية وسلامتهن يؤثر بشكل مباشر على عملية تخطيهن تلك التجارب البشعة. هذا ما يجعل المجموعات النسوية المعنية بذلك السؤال تفكر مليًا في كونهن ناجيات أم لا. ولكن في التحليل الأخير هن بالفعل ناجيات، وخاصة في المجتمعات الذكورية، فهن يحاربن أفكار وممارسات تصر على كونهن ضحايا مغلوبات على أمرهن، في ذات الوقت الذي يحاولن التغلب على الصراع الداخلي الذي يمررن به، ويحاولن الوصول إلى منطق ما جراء ما تم ارتكابه بحقهن والاحتفاظ بالبعض من الصواب تجاهه ليمكنهن من المضي في حياتهن.
* تم نشر هذه المقالة على موقع مدى مصر بتاريخ 29 نوفمبر 2014.