مقدمة
شهد شهري نوفمبر 2012 ويناير 2013 موجة عنيفة وغير مسبوقة من الاعتداءات الجنسية على المتظاهرات في ميدان التحرير والمناطق المحيطية به. تركت موجة الاعتداءات الجنسية عشرات أو ربما مئات الناجيات اللاتي مررن بتجارب قاسية، متباينة قليلا في تفاصيلها وشدتها، ولكن تركت جميعها درجات من المرارة والغضب والشعور بالانكسار وفقد الثقة لم نشفي منه جميعا حتى اليوم.
على الجانب الآخر أنتجت التجربة عشرات النساء اللاتي قررن الاشتباك مع ما يحدث. بعض هؤلاء كن قد مررن فعليا بالتجربة، وبعضهم لم يمر بها، ولكن من سمع كان كافيا ليخلق لديه الرغبة في فعل شيء ما. تنوعت وسائل الاشتباك التي كانت مطروحة آنذاك ما بين التدخل الميداني لإنقاذ الفتيات، وما بين التعبئة ضد التحرش والاعتداء الجنسي على المستوى الإعلامي أو السياسي، وما بين محاولات خلق خطاب مجتمعي قادر على التعامل مع الظاهرة. استطاعت الاستراتيجيات المتباينة في مجملها تحقيق نجاح نسبي بمستويات مختلفة سواء فيما يتعلق بإنقاذ عدد كبير من الناجيات أو منع أخريات من التعرض للانتهاك. كما نجحت المبادرات المختلفة في الانتقال بالظاهرة من الحديث بين المجموعات المغلقة المعنية إلي وضعها بالإجبار على أجندة مجتمع رفض لشهور التعامل معها، ووضعها بعض فترة -على استحياء- على أجندة دولة من المفترض أنها مسئولة عن حماية مواطنيها.
وعلى هامش استراتيجيات الاشتباك المتنوعة ظهر جدل واسع حول عدد من الموضوعات المرتبطة بالتعامل مع القضية. وكان على رأس هذه الموضوعات الخطاب السياسي والاجتماعي المطروح من المعنيات والمعنيين بالموضوع وتأثير هذا الخطاب على الظاهرة وعلى المتضررات منها. كما كان أحد القضايا الخلافية الأخرى التي طرحتها خبرة الأشهر الثلاثة هي تفنيد استراتيجيات التدخل ذاتها من حيث فاعليتها ومن حيث تأثيرها على الناجيات وعلى المنخرطات في المبادرات.
وتحاول المقالة الحالية طرح ثلاث إشكاليات كبرى، يتعلق أولها بتأثير تجارب الاشتباك مع أحداث الاعتداءات الجنسية من خلال التدخل الميداني وكيف يمكن أن تكون أثرت على المستوى النفسي على الفتيات المنخرطات بها، سواء كن هن أنفسهن ناجيات من اعتداء جنسي أو معرضات له نتيجة وجودهن في منطقة الحدث. في حين تتعلق الإشكالية الثانية بالخطاب الذي طرح آنذاك للتعامل مع الظاهرة وكيف يمكن أن يكون أثر نفسيا على الناجيات، أو المهددات من النساء، أو النساء المعنيات بشكل عام. وتتعلق الإشكالية الثالثة بضرورة ضمان استمرارية المجموعات وفاعليتها خاصا مع احتمال تكرار الظاهرة في المستقبل، ومع وجود مجموعات لازالت معنية ومتحمسة للتصدي لها.
إشكالية مجموعات التدخل
كان أحد طرق التدخل التي حققت نجاح ملحوظ وغير متوقع هي مجموعات التدخل. والتي تكونت بغرض إنقاذ الفتيات من أماكن التحرش والاعتداء، وإبعادهن عن الخطر وتوصليهن لوسيلة إسعاف طبي أو نفسي حسبما تحتاج كل منهن. استطاعت هذه المجموعات في وقت قليل جذب أعداد كبيرة من المتطوعين والمتطوعات المتحمسين والمتحمسات للمساعدة، واستطاعت تطوير آليات مبتكرة للتدخل الميداني والتعامل مع الفتيات، في ظروف أقل ما يقال عنها أنها تعرض حياة الموجودين فيها للخطر بالإيذاء الجسدي والنفسي معا. كانت المجموعات (ذكورا وإناثا) على مستويات من الإحساس بالمسئولية والالتزام والاستعداد بالتضحية بشكل يثير الإعجاب، وكانت قدراتهم التنظيمية تتحسن يوما بعد يوم، وكان النجاح ملحوظا للجميع. بالطبع كانت بشاعة وعنف الظاهرة أكثر بكثير من أن تنجح تلك المجموعات في القضاء عليها تماما. ولكن استطاعت هذه المجموعات أن تحد من أثرها أو بأقل تقدير تقلل من عدد الحالات وشدتها. إلا أن هاجس ما يتعرض له هؤلاء أنفسهم أثناء الاشتباك مع المعتدين ظل حاضرا طوال أيام الأحداث، وظل الأثر النفسي الذي تؤثر به التجربة عليهم هاجس آخر طوال أيام الأحداث وفيما بعدها على المدى القصير والطويل.
عكست شهادات بعض هؤلاء وخاصا الإناث منهم – وبعضها منشور بالفعل ومتداول– قدر هائل من الألم النفسي والإحساس بالذنب والعجز. مما يعني بالضرورة حاجتهم إلي المساعدة النفسية المنظمة حتى يستطيعوا إكمال دورهم. وحتى لا يصل بهم الحال إلي الانهيار الكامل أو يصحبوا هم أنفسهم ضحايا للتجربة. وأثارت تلك الشهادات كذلك تساؤل وجدل حول جدوى مشاركة الفتيات في التدخل بشكل مباشر في الميدان. ما بين وجهه نظر ترى أهمية وجود فتيات للتعامل الفوري مع الناجية، والتي ينقسم العالم لديها في لحظة الاعتداء إلي ذكور معتدين وإناث مثلها مصدر للأمان، ووجهة نظر أخرى ترى خطورة وجود الإناث في الموقف واشتباكهن مع المعتدين مع احتمالات مرتفعة جدا لتكون هي نفسها عرضة للاعتداء، ووجهة نظر ثالثة ترى ضرورة ترك المجال مفتوح للإناث لتقرر رغبتها في المشاركة أو لا، وتختار بإرادتها شكل وحجم هذه المشاركة. وجهات النظر الثلاث ليست متعارضة مع بعضها البعض في حقيقة الأمر، وبالفعل كلها صحيحة بدرجة ما، إلا أن حساب الأمر في ضوء حجم المكاسب والخسائر سيظل أمر هام. هؤلاء الفتيات اللاتي تشاركن في التدخل بكل ثقل الإحساس بالغضب والذنب، وبكل حماسهن واستعدادهن للتضحية، بدون توافر أي شروط أمان جسدي أو استعداد نفسي، وبدون إجراءات تدخل نفسية لاحقة تتعامل مع أعراض الصدمة النفسية لديهن جعل الكثير منهن يقترب أن يكون "ضحية" بكل ما يحمله المعني من دلالات قاسية. كما أنتجت دوائر العنف التي تدخل فيها هؤلاء رغبة متزايدة في الانخراط أكثر والتعرض للخطر أكثر، وتركت شعورا بذنب وغضب وعجز وفقد للثقة يزيد يوم بعد يوم. تركت ندوبا ربما تبقي للأبد طالما حييت. خاصا أن بعض هؤلاء كن ناجيات من تجربة اعتداء سابق لم يشفوا من أثرها قبل أن يقرروا النزول للميدان مرة أخرى لمساعدة أخريات.
إشكالية الخطاب
ربما كانت إشكالية الخطاب أكثر تعقيدا على المستوي النظري وربما كان أثرها النفسي على الناجيات والمشاركات في مجموعات التدخل والفتيات المعنيات بالقضية بشكل عام أكثر خطورة. بإرادة أو بغير إرادة كان الخطاب السائد يسير في اتجاه ربط معركة الفتيات الناجيات بمعركة الثورة بشكل عام، وبمعركة المجال العام الذي صدقنا لبعض الوقت -كنساء- أننا نجحنا في انتزاعه وفرض شروطنا عليه، ثمن التنازل عن هذا المجال كان بالطبع ثمن باهظ جدا، ومن الصعب علينا جميعا دفعه، إلا أننا دون أن ندرى كنا نخلق دائرة جديدة من العبء النفسي على الإناث لكي تدفع أجسادها ثمنا لعدم خسارة هذا المجال. وبالطبع إجابة أن حق هؤلاء في الاختيار وقرارهم بالتضحية كانت إجابة بديهية طوال الوقت، ولكن دون وجود شروط حقيقية تضمن حرية الاختيار، أبسطها على الإطلاق الإدراك –إدراك فعلي– لحجم التضحية، وأثر التجربة المحتمل، والأهم قدرتنا نحن كنساء على دفع الثمن وتحمل النتائج.
استخدام خطاب ضرورة الدفاع عن مكاننا كنساء في المجال العام، وخطاب الدفاع عن الثورة كان نظريا اختيار نضالي ومثالي، إلا أنه وضع المئات من النساء أمام مسئولية ثقيلة، لا تدرك ثقلها إلا بعد المرور بالتجربة. كذلك كانت كل القرارات الضمنية أو الصريحة بعدم نشر المعلومات حول حالات الاعتداءات الجنسية في التحرير بدعوى عدم إرهاب النساء الرغبات في التظاهر، هي في الحقيقة قرارات مجتمع قرر للمرة الألف التضحية بالنساء والضغط عليهم من أجل مكسب قرر هو أنه له الأولوية.
مترتبات قرار المشاركة ونتائجه كانت ولازالت وستظل على عاتق الفتاة وحدها، من تتعرض لتجربة الاعتداء تحمل أثر هذا الاعتداء وحدها، وستظل ذكراه بكل تفاصيلها المؤلمة في ذكراتها للأبد، دون أن نكون نحن واثقين من قدرتنا على التخفيف عنها أو إزالة جزء مما تركته هذه التجربة على جسدها وعقلها وروحها.
إشكالية الاستمرارية.... دعم مجموعات الدعم
كل الإشكاليات السابقة وغيرها طرحت سؤال حول قدرة كل المعنيين بالقضية على الاستمرار في المستقبل، وخاصا مع ارتفاع احتمالات تكرار موجة جديدة من الاعتداءات الجنسية، ومع توقعنا بعدم استعداد الدولة بعد ولا رغبتها في ممارسة دورها الطبيعي بتأمين المجال العام للنساء . ولهذا سلامة المعنيين بالتدخل -قدر المستطاع- وضبط خطاب المعنيين بالقضية هو أولوية قصوى الآن.
ضمان سلامة المعنيين بالتدخل (أو تقليل الخسائر المحتملة) يحدث من خلال بناء نظام قادر على الاستمرارية، وقادر على اختيار من يستطيع فعلا دفع ثمن التجربة، أو على أقل تقدير إعطائهم معطيات الصورة كاملة تبعيات المشاركة. نظام قادر كذلك على توفير مساحة نفسية أمنة ومهنية تستطيع التعامل مع الندوب النفسية التي تتركها التجربة في المشاركين والمشاركات، وتستطيع تعليمهم بعض سبل الصلابة النفسية والوقاية من الذنب والألم والغضب. إن التراث النفسي السابق غني بالأدبيات التي تتحدث عن كيفية بناء نظم دعم نفسية للمجموعات التي تختار التعامل مع تجارب قاسية وخطيرة، وتعتمد هذه النظم في مجملها على هدفين رئيسين: الأول خلق مساحة أمنة تسمح للطرف الذي يقدم المساعدة أن يتلقي المساعدة، حيث أن هذا الشخص بعد بعض الوقت يستخدم كل الحيل النفسية الممكنة حتى يضمن أن يكون طوال الوقت مقدم للمساعدة، ويحرم نفسه -أحيانا برفض قاطع- من أن يكون في موقع ضعف، ولا يعترف بحاجته للمساعدة من آخرين. تحاول هذه النظم خلق المساحة لهذا الشخص أن ينهار، يشعر بضعفه، يتلقي مساندة، ثم يكمل من جديد بعد أن تعلمه كيف يتعامل مع المشاعر والأفكار السلبية المرتبطة بانخراطه في التجربة. أما الدور الثاني لهذه الأنظمة – والذي يتقاطع في حقيقة الأمر مع دور الخطاب المنضبط- هو خلق مساحة للتراجع عن الدور، أو باب للخروج في اللحظة التي يشعر فيها الفرد بعدم قدرته على الاستمرار، دون لوم أو إشعار بالهزيمة أو الضعف أو الاستسلام.
كذلك دور الخطاب المنضبط هو توفير شروط الاختيار الحر، الذي لا يلوم النساء بشكل عام التي تقرر الانسحاب، ولا يشعرهن بالضعف أو التخاذل، أو الاستسلام. ولا يحمل نساء أخريات حمل لا يستطعن دفع تبعياته، خطاب يوضح للجميع الوضع كما هو دون إخفاء ودون تهويل أو تهوين.
خاتمة
أدركنا من خلال دروس قاسية أن ظاهرة الاعتداء الجنسي لا تقتصر فقط على متظاهرات ميدان التحرير، وأصبحت اليوم – بدون مجال للشك – ظاهرة مجتمعية تهدد وجود النساء في المجال العام بمعناه المباشر، أو حتى ربما وجود النساء في الشارع في المستقبل. أحداث التحرش الجنسي الجماعي والذي يصل للاعتداء في بعض الأحيان أصبحت بكل أسف جزء من تقاليد هذا الشعب للتعامل مع التجماعات سواء كانت مظاهرة في ميدان التحرير أو اشتباك مع قوات الأمن في محمد محمود وما حوله، أو الاحتفال بالأعياد، أو حتى الاحتفال بفيلم سينمائي جديد في سينمات وسط البلد. ناهيك عن الممارسات الفردية اليومية التي تتعرض لها كل نساء هذا الوطن في الشوارع والتي تتراوح بين التحرش اللفظي وصولا للاعتداء. بالفعل نجحت المجموعات المعنية على إجبار المجتمع على رؤية الظاهرة بكل قسوتها، وأصبح من الضروري البناء على هذا النجاح من أجل التعامل معها بكل السبل الممكنة لتوفير مجال آمن للنساء للحركة والاحتفال والتظاهر. وحتى نصل لتحقيق هذا الهدف فإن كل جهد مبذول يجب أن يضع على أولويته في البداية المصلحة المباشرة للنساء، من تعرضن منهن للاعتداء، ومن ربما يكونوا عرضة له. ويظل حق الاختيار مكفولا بعد ضمان شروط الاختيار الحر.