في الثمانية عشرة يوما الأولى لم تكن الشوارع حول الميدان تقل ظلمة عنها الآن، بعد انتشار الأسوار المتناثرة الخانقة لمنطقة وسط البلد، خلال فترة تزايدت فيها تلك الاسوار عبر العام ونصف العام المنقضيين.
خلال تلك الأيام الأولى من الثورة كان قلق من تعلقت قلوبهم بالميدان واحتوت ساحته أجسادهم، ينحصر في أن يظن أعضاء اللجان الشعبية بهم -أو أن يعرفوا عنهم- أنهم "من العيال بتوع الميدان". كان التهديد قائما، والمرور من وإلى خارج الميدان مغامرة يمكن ببعض الحظ أن تمر على خير.
ربما كان غياب الأشباح السوداء (جنود وضباط الشرطة) التي مثلت في هذا الوقت عدوا طبيعيا للثورة والثوار، قد مثل عامل طمأنة واضح لثوار الميدان، بعد أن اقتصرت عمليات الاغتيال المباشرة التي تقوم بها قوات الشرطة بنفسها داخل القاهرة على الميدان نفسه وشارع محمد محمود الذي ظلت المعارك فيه دائرة لأيام سبقت موقعة الجمل. وتركت مهمة قتل الثوار في باقي الشوارع لبلطجية متعاونين وأفراد شرطة في اللباس المدني كما يعلم (وينكر) الجميع.
اختلط ذلك الغياب الشرطي الرسمي بحالة "اليفوريا" التي غمرت كل من كان في تلك المساحة (ميدان التحرير)، التي باتت الآن بدورها منتهكة مظلمة. هذا الشعور الغامر لدى كل فرد بأن هناك ما هو أهم وأسمى من وجوده المادي المحدود، خفف كثيرا من عبء الخوف والظلمة. هذه اليفوريا نفسها آخذة الآن في التلاشي من الصدور مع الانتكاسات المتوالية للثورة على يد المجلس العسكري ثم السلطة الحاكمة المدنية التي تولت الحكم... ولا تدخر جهدا في الإطاحة بكافة أهداف الثورة والتنكيل بالمؤمنين بها، ولم تعد بقايا تلك اليفوريا المتناثرة في قلوب المارين وسط القاهرة قادرة على تبديد ظلمات الأسوار الخانقة التي حولت وسط المدينة إلى متاهة مقبضة.
بين الأسوار تتناثر مجموعات ضخمة من الأشباح السود، ما إن تغيب الشمس حتى يزداد نشاطهم، تصير المناطق البينية في المسافات الفاصلة بين الأسوار (حيث يتواجد ممثلي السلطة وأذرعها الباطشة)؛ منطقة خطر.
منذ عام ونصف العام، ومع توالي عملية السرطنة لشوارع وسط البلد بتلك الكتل الحجرية التي أومن أن الغرض منها ليس حماية (المنشآت الحيوية) على حد تسمية السلطة على الإطلاق، صرت أتفادى المرور في تلك المساحات البينية التي تسكنها الأشباح السود، لا خوفا ولا رهبة، ولكن ضيقا وألما... من تلك الفكرة الملحة التي تقول أن "تلك المساحة التي كانت يوما لنا لم تعد". تلك الأسوار الخانقة غرضها الرئيس أن تقول لي ولمن هم مثلي أن الشارع ليس لنا، وأن المجال العام ملك للسلطة تمرح فيه كما شاءت.
لا أرى فيما وقع معي يوم السبت الرابع من مايو والذي كتبت عنه في هذه التدوينة تفصيلا أمرا ينفصل عن تلك الفكرة، فكرة انتزاع السلطة للمجال العام والإصرار على مصادرته والاستحواذ على كل ما يقع في نطاقه بما في ذلك أجساد المواطنين. عرفت من صديقات وناشطات أن تلك المساحات البينية الخانقة تكثر فيها التحرشات الجنسية بالمارات، حيث تكثرالصحف والمنظمات الحقوقية في تلك المنطقة تحديدا.
هذه المساحات تتعرض فيها الناشطات يوميا لتحرشات لفظية وأحيانا جسدية ذات صبغة جنسية، من ممثلي السلطات من الأشباح السود، حيث تشكل الثياب النظامية السوداء والتكتلات الجسدية المتراصة متلحفة بالهيئة والمنظومة الفكرية نفسها، عنصر حماية ومؤازرة لممارسي الانتهاك... فكلهم واحد متكرر، إذا أجرم منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى.
لا أرى في تلك التحرشات الجنسية جوع كامن، أو كما قال لي غير ضابط: " فلاحين مشافوش ستات ومش متعلمين وجعانين". الأمر ببساطة هو ممارسة كل الأفكار المنبنية عليها السلطة، من خلال فعل ربما لا يمثل في ذهن منفذه لحظة إتيانه سوى " التعليم على هؤلاء النسوة المختلفات".
هن نساء. وتبدو الواحدة منهن وكأنها أتت من عالم آخر أقل فقرا، هن يتحركن داخل المساحة التي تضرب فيها تلك السلطة أعمدتها وأسلاكها الشائكة... هن مستحقات إذن لكل ما يمكن ان يهدم هذه الهالة المتخيلة لدى القائم بالتحرش، في هذه اللحظة التي يرتفع صوت جندي الأمن المركزي عارضا على "المُتَحَرَش بها" الإتيان بفعل جنسي ما معها، أو معربا عن تمنيه بأن يأتي بهذا الفعل، أو يتعرض بوصف بذئ لعضو بجسدها، هو في تلك اللحظة يفرض سيطرته الذكرية محتميا بالسلطة التي يتزيا بزيها، ليؤكد على مايراه ملكيته للمجال العام... لا يمكنني أن أفصل هذا عن ما يتلقاه هؤلاء الجنود من تعاليم في طوابير الخدمة تؤهلهم لأن يكونوا عصا السلطة (الدولة كما يقال لهم) في "فرض النظام" وفي حكم المجال العام والسيطرة عليه.
لن أكون متعسفة فأفترض أن تلك الأسوار الحامية هي ما كفلت لجنود الأمن المركزي ممارسة التحرش بشكل يكاد يكون منظما بالمارات في تلك المساحات البينية المغبرة صباحا والمظلمة ليلا – في مصادرة واضحة لحق المواطن في التنقل بحرية، وفي الأمن الذي يتصل بشعور المواطن بالأمان خلال ممارسته لمفردات حياته اليومية- فتحرشات المنتمين لجهاز الشرطة بدءا من درجاتهم الدنيا (جنود المرور) مرورا بأمناء الشرطة وصولا للضباط (أحيانا) موجودة منذ ما قبل الثورة.
لكن كثافة وجود جنود الأمن المركزي في تلك المساحات البينية محتمين بالأسوار الساجنة لمارة وسط البلد، وبتكتلاتهم العددية وزيهم الذي يضفي عليهم في بعض الأذهان سمتا مثيرا للخوف والذعر، باعتبارهم ممثلين لسلطة باطشة، هذه التركيبة ضمنت تزايد مثل هذه التحرشات، بعد أن اتخذت طابعا انتقاميا واضحا، في نزاع لا يبدو أنه سينتهى قريبا حول المساحة التي يمكن للمواطن (خاصة لو كان أنثي) أن ينتزعها في المجال العام.