العبودية... كلمة قد يخيل لنا أنها انتهت من قاموس البشرية منذ عقود مضت تحديدا في مصر. فقد بدأت إرهاصات مكافحة العبودية مع بدايات القرن التاسع عشر عندما بدأ الخديوي عباس حلمي الأول التقليل من حدود الرق والاسترقاق وتعيين من كانوا عبيدا فى وظائف هامة بالدولة وحذا حذوه الخديوي سعيد باشا والذي قرر حظر الاسترقاق وتجارة الرقيق وقرر تعيين الرقيق البيض ضباطا في الجيش والسود جنودا –وان كان الأمر ينطوي على عنصرية للعرق واللون– ولكنه كان خطوة أولى لإنهاء الرق وتجارته في مصر، وكان ذلك فبل توقيع اتفاقية منع وتجريم تجارة الرقيق بين حكومة الاحتلال البريطاني والحكومة المصرية بالإسكندرية في 4 أغسطس 1877 وقبل توقيع اتفاقية إلغاء الرق والعبودية في جنيف في 25 سبتمبر 1926 .
قد يوحى كل ما سبق أن العبودية وبالرغم من مرور ما ينيف عن 125 عاما أن البشرية قد تخطت حاجز العبودية طبعا -بغض النظر عن أن دول كالسودان وموريتانيا ظلت العبودية فيها مشرعة حتى ثمانينات القرن الماضي– ولكننا أصبحنا في منظومة عالمية ودولية جديدة بمفهوم جديد للعبودية التي خدعنا بإعلان انتهائها.
فالنظام السياسي والاقتصادي العالمي لا يسمح إلا بعبودية جديدة، دولا في المقدمة تقود وتسيطر وتتحكم ودولا تُغزى وتحارب ويتنتهك سيادته، شركات عالمية تستغل نفوذا سياسيا لدولها وتعمل في الجنوب العالمي (أفريقيا وأمريكا اللاتينية وجنوبي آسيا) تستعبد شعوبا بأسرها وتحرمهم من ثرواتهم ليستفيدوا هم ودولهم بها. بغض النظر عن الحروب والمجاعات والأضرار الصحية والأمراض التي يتسببون بها للبشر في تلك المنطقة... كم دولة في أفريقيا عانت تحالفا عسكريا اقتصاديا بين الطغاة الذين يحكمونها والدول العظمى من أجل المال والثروات فالرجل الأبيض مازال يمارس دوره كمستعمر ومستعبد مع فارق بسيط بالأمس كان احتلال عسكريا واليوم استعمارا اقتصاديا وسياسيا.
وفى نظرة أكثر عمقا للوضع الحالي سنرى بوضوح أن النساء هن اللاتي أكثر عرضة للعبودية في ظل الأنظمة الحالية ونستطيع أن نرى ذلك بوضوح فالدول العظمى تستعبد الأنظمة السياسية الموجودة في دول الجنوب العالمي -المنعوتة بدول العالم الثالث- وهذه الأنظمة تستعبد مواطنيها لترضى سادتها في الدول العظمى والمواطنون –الذين يعيشون في مجتمعات أبوية وذكورية عادة- يستعبدون نسائهم واللاتي يعتبرن المعيلات لنسبة كبيرة جدا من الأسر في تلك الدول أو أن تحرم الأنظمة القمعية تلك الأسر من عائليها ما يضطر النساء أن يعملن في ظل ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية مهينة حتى توفر معيشة ليست بالضرورة كريمة لأسرهن وأطفالهن، فالنساء في ظل أنظمة العبودية الجديدة يقضين حياتهن في معسكرات للاجئين يتم فيها اغتصابهن وتعذيبهن وانتهاك كل حقوقهن أو مهاجرات غير شرعيات يواجهن السجن والإبعاد والتعذيب حين العودة لبلادهن، ناهيك عن ضحايا الحروب والأزمات التي يمرون بها واللاتي يعملن بها ولا نحتاج للتعريف بأن الحروب الدائرة هي جزء أصيل في منظومة العبودية في العالم الجديد.
النساء في تلك المنظومة العالمية أصبح عليهن أن يخترن –إن كان لديهن رفاهية الاختيار- بين العمل في ظروف مهينة وبرواتب زهيدة لأن منظومة العمل لا تساوى بين الرجال والنساء عادة في الأجور أو يجبرهن أزواجهن أو ذويهن على العمل والإنفاق على الأسرة دون أدنى حق من حقوقهن أو أن يهاجرن هجرة غير شرعية ليعملن في مهن مذلة في دول "العالم المتقدم" وأثناء تلك الهجرة قد يخضعن للابتزاز والاغتصاب أو قد يقعن فريسة لعصابات الاتجار بالبشر ويتحولن إلي سلع جديدة تباع وتشترى في أسواق النخاسة المتقدمة أو يعتقلن ويعدن لبلادهن أو يجبرن دون إرادتهن على امتهان الجنس. إن المنظومة الدولية تدعى أنها عملت أو تعمل على إنهاء العبودية بمعناها المجرد دون أن تلتفت لجميع المعاني والالتفافات الأخرى على هذا المعنى المجرد. منظومة أنهت الرق والاتجار بالبشر ولكنها كرست لعبودية دولية اقتصادية يتم خلالها الاتجار بدول بكاملها تجتاح وتحتل وتنهب ثرواتها فقط من أجل دول تضع نفسها في مقام السادة و دول أخرى هي دول العبيد.
قد نحتفل اليوم بإنهاء صورة من صور العبودية ولكننا يجب أن نكون مدركين تماما أننا دونما أي تحقيق لقدر من العدالة الاجتماعية والتمكين الاقتصادي لنساء وللغالبية من مجتمعات العالم فإننا قد نكون أمام عبودية أكثر توحشا والأصعب أنها أصبحت مقبولة بل لا تجد الدول التي تدعى التقدمية والتحرر حرجا من ممارستها على الدول الأخرى.