تُعرب المنظمات الموقعة أدناه عن استنكارها الشديد لاستمرار حملة تشويه وإرهاب منظمات المجتمع المدني، خاصة منظمات حقوق الإنسان، وتؤكد على أن إحالة 43 مصري وأجنبي لمحكمة الجنايات، هو في حقيقته مسألة ذات أهداف وبواعث سياسية بالأساس، حيث أن المؤسسات المُحالة للمحاكمة تمارس نشاطها منذ عدة سنوات، دون أن يُطلب منها وقف نشاطها أو إغلاق مقارها. كما أن الحكومة المصرية وجهت الدعوة في أكتوبر الماضي لأثنين من هذه المنظمات لمراقبة الانتخابات البرلمانية، رغم أنه طبقًا للمادة الثانية من القرار رقم (20) لسنة 2011 الصادر من رئيس اللجنة العليا للانتخابات بشأن تنظيم دور المجتمع المدني في متابعة الانتخابات، لا يجوز للمنظمة المدنية غير المصرية أن تتابع العملية الانتخابية إلا بعد تقديم “ما يفيد تصريح وزارة الخارجية بمباشرة هذا النشاط في مصر؟!” و لعل هذا التصريح وإن كان محدد بنشاط مراقبة الانتخابات إلا أنه يضفي مشروعية لعمل المنظمات المصرح لها حيث أن التصريح بممارسة نشاط محدد يقتضي مشروعية وقانونية وجود المنظمة في مصر بداهة.
إن القفز فجأة فوق كل هذه المعطيات، ومداهمة مقار هذه المنظمات –ومنظمات حقوقية مصرية أخرى- بالقوات المسلحة، وتحويلها للمحاكمة، لا يثير فقط عشرات علامات التعجب والاستفهام، ولكنه يثير التساؤل عما إذا كان هذا التطور يجد سندًا في المزاعم التي يروجها كبار المسئولين في الحكومة عن “سيادة القانون”، و”استقلال القضاء”؟.
إن أول من يشهد على عدم استقلال القضاء في مصر هم كبار القضاة المصريين أنفسهم، جنبًا إلى جنب مع كل الذين يكافحون من أجل دولة الحق والقانون في مصر، أيا كانت انتماءاتهم السياسية.
لقد كافح وما زال قضاة تيار استقلال القضاء من أجل تحقيق هذا الهدف الوطني الرفيع لعدة عقود، ودفعوا ثمنًا غاليًا في كل العهود. وعندما تولى شيخ القضاة المستشار حسام الغرياني رئاسة المجلس الأعلى للقضاء في يوليو 2011، فإنه شكّل لجنة لوضع قانون يكفل استقلال القضاء، أسند رئاستها لأحد أبرز قضاة تيار الاستقلال: المستشار أحمد مكي. كان رئيس المجلس الأعلى للقضاء يأمل في اعتماد مشروع القانون قبل الانتخابات البرلمانية، حتى لا يؤثر عدم استقلالية القضاء سلبًا على نزاهة الانتخابات، وحتى يتمتع القضاة المشرفون عليها بالاحترام الواجب. وبالرغم من ترحيب تلك اللجنة بإجراء تعديلات على مشروع القانون خصوصًا في علاقته بالمحاميين إلا أن المجلس العسكري رفض أن ينظر في المشروع المُقدم، بل تعرض مئات القضاة للاعتداء أثناء المرحلة الثانية للانتخابات من الشرطة العسكرية، وهو ما دفع بعض القضاة أن يشرعوا في تقديم استقالاتهم نتيجة ما تعرضوا له من إساءات وإهانة، الأمر الذي دفع نادي القضاة بالتهديد بعدم الإشراف على المرحلة الثالثة من الانتخابات، وليظل القضاء المصري لا يتمتع بالاستقلالية التي تذكرتها فجأة الحكومة المصرية، لإضفاء المصداقية على معركة سياسية تفتقر للسند الأخلاقي قبل كل شيء. وليظل القضاء المصري عاجزًا أيضًا عن التوصل للجناة في جرائم قتل المتظاهرين أثناء الثورة، وكذلك كل المذابح التي جرت بعد الثورة، ويصبح قتل المواطنين المصريين -أفرادًا أو جماعات- يوميًا جريمة بلا عقاب، بينما يجري على قدم وساق الإعداد لمعاقبة المنظمات الحقوقية التي تطالب بحقوق الضحايا، وتكشف الجرائم المرتكبة ضدهم.
غير أن مشكلة الافتقار لاستقلال القضاء لا تقتصر فقط على مدى مصداقية هذا الهجوم السياسي المسلح بآليات ترتدي ثوب القضاء والقانون، بل إن إدارة عملية التحقيق في القضية ذاتها تدحض القول باستقلالية السلطة القضائية. فالتحقيقات تجري في مقر حكومي (وزارة العدل)، ويقوم قاضيان اختارهما بالاسم رئيس محكمة استئناف القاهرة بمفرده، وهو الأمر الذي انتقده كثيرون، واستنكره أحد أبرز قضاة تيار الاستقلال (المستشار هشام جنينة رئيس محكمة الاستئناف)، حيث تساءل كيف يتم اختيار قضاة بالاسم في قضايا خطيرة مثل هذه؟ (كان يعني عدة قضايا جرى تعيين قضاة التحقيق فيها بالاسم!). ولعل معرفة السيرة الذاتية لقاضيا التحقيق قد تجيب عن هذا السؤال، حيث إنهما عملا لفترة طويلة كرؤساء لنيابة أمن الدولة العليا، تلك النيابة التي كانت مثار انتقاد واسع ومطالبات بإلغائها من قِبل الداعيين لاستقلال القضاء والمنظمات الحقوقية والقوى السياسية المختلفة لارتبط اسمها بالتستر على جرائم تعذيب المتهمين في قضايا سياسية على يد زبانية مباحث أمن الدولة، وأيضًا لأنها كانت أداة في يد نظام مبارك يستخدمها لتصفية الحساب مع خصومه السياسيين.
الجدير بالذكر أن رئيس محكمة استئناف القاهرة الذي قام باختيار هذين القاضيين هو في ذات الوقت رئيس اللجنة العليا للانتخابات وأيضًا رئيس محكمة أمن الدولة العليا طوارئ، بموجب الأمر رقم 3 لسنة 2011 الصادر من رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة.
لقد زعمت الحكومة المصرية أن المداهمات التي جرت في ديسمبر الماضي لعدد من مقار المنظمات المصرية والدولية هي عملية تفتيش قضائية تمت وفقًا للقانون. غير أن ما حدث كان في واقع الأمر جريمة جرى خلالها التضحية بالقانون، حيث تم استخدام القوات المسلحة في مهاجمة هذه المقار، دون تقديم أي تفسير قانوني أو غير قانوني لوجود هذه القوات، التي صادرت بالقوة الجبرية المسلحة مئات الملفات والحاسبات الإلكترونية، دون أن يتم توثيق ما تم نقله من هذه المقار في محاضر رسمية قانونية معتمَدة بشكل قانوني من الأطراف ذات الصلة، الأمر الذي يفتح الباب لاصطناع أدلة سواء عن طريق الإضافة أو الاستبعاد، كما جرى تشميع هذه المقار بالمخالفة للقانون.
قبل أن تبدأ المحاكمة، أدارت وزارة العدل وأطراف أخرى بداخل الحكومة وقاضيا التحقيق محاكمة فعلية من طرف واحد في وسائل الإعلام على مدار نحو 5 شهور، تضمنت توزيع تهم جزافية لكيانات وأشخاص، بأسلوب التسريبات الصحفية، بهدف تشويه سمعة منظمات المجتمع المدني بشكل عام والمنظمات الحقوقية بشكل خاص، وإلصاق تهم العمالة لصالح أجندات أجنبية، والتآمر على استقرار البلاد. كان ذلك مخالفة صريحة للقانون وقواعد التحقيق، والتي تفرض على القائمين على التحقيق أو المتصلين به الالتزام بسرية التحقيقات والنتائج التي تسفر عنها، طبقًا لنص المادة 75 من قانون الإجراءات الجنائية. ومخالفة ذلك يعتبر جريمة يعاقَب عليها وفقًا لقانون العقوبات في المادة 310 بالحبس والغرامة.
لعل المؤتمر الصحفي الذي عقده وزير العدل يوم 21 ديسمبر في أعقاب ما يعرف بمذبحة مجلس الوزراء كان خير مثال على توجيه الرأي العام، بل وقضاة التحقيق (الذين يديرون عملهم من مكتب وزير العدل ذاته)، في أمر كان ومازال تحت قيد التحقيق، فضلاً عن كونه استباقًا لنتائج التحقيقات، وتدخلاً في سير مجرى التحقيقات. حيث صرح وزير العدل “بأن الخيوط الأولية كانت قد كشفت عن تلقي مجموعة من الأشخاص مبالغ مالية من جهات أجنبية وخصوصًا منظمات المجتمع المدني والجمعيات الحقوقية والاجتماعية الذين قاموا بتوزيع هذه الأموال التي تلقوها على بعض الأفراد”. كان ذلك بمثابة إملاء صريح لأوهام من مخيلة الحكومة ووزير العدل على قضاة التحقيق. كان قد سبق هذا المؤتمر الصحفي تصريحات متعددة منسوبة لمصدر قضائي “رفيع المستوى” بأنه في حال ثبوت صحة البلاغات المقدمة ضد منظمات المجتمع المدني، قد تواجه –المنظمات- تهم الخيانة العظمى.
ولم يتوقف إفشاء أسرار التحقيق عند هذا الحد، حيث تضمن المؤتمر الصحفي الذي عقده قاضيا التحقيق في قضية التمويل الأجنبي يوم 8 فبراير الكشف عن نتائج التحقيقات، واستعراض لبعض أدلة الثبوت التي على أساسها تم إحالة 43 موظف مصري وأجنبي يعملون بالمنظمات الدولية إلى محكمة الجنايات، كان يهدف بالأساس لإيهام الرأي العام بوجود مؤامرة هائلة تستهدف استقرار ووحدة البلاد، وإظهار منظمات المجتمع المدني الدولية في صورة الخطر المهدد لأمن البلاد ، حتى لو كان من خلال التضحية بالقانون وأخلاقيات العمل القضائي والقواعد القانونية التي تقضي بأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته.
أحد أبرز الأكاذيب الحكومية في هذا المجال، هو الزعم بأن تمويل منظمات حقوق الإنسان هو تمويل سياسي، ومماثل لدعم الحملات الانتخابية للأحزاب السياسية في الولايات المتحدة وغيرها. فليس هناك من يجهل أن المنظمات الحقوقية لا تدعم حزبًا سياسيًا ضد آخر، سواء في وقت الانتخابات أو في غيره، بل تنحصر أنشطتها في هذا المجال في رفع الوعي بالحقوق السياسية للمواطنين دون تمييز مبني على الانتماء السياسي أو الحزبي، ومراقبة الانتخابات فيما يتعلق بتوافر مقومات الشفافية والنزاهة والحرية على قدم المساواة لكافة الأطراف.
لقد أخطأت الحكومة عن عمد في توجيه اتهام التمويل السياسي، فمجاله الوحيد المحتمل هو الأحزاب السياسية.غير أنه لا شك أن “التمويل السياسي” المؤكد في مصر، هو المعونة التي تتلقاها الحكومة المصرية منذ أربعة عقود من الولايات المتحدة الأمريكية منذ توقيع معاهدة كامب ديفيد، وذلك من أجل رعاية المصالح السياسية والإستراتيجية والأمنية لها في المنطقة. لقد برزت أغراض هذا التمويل “السياسي” في عدة مناسبات لعل أبرزها مشاركة نظام مبارك في عملية حصار الشعب الفلسطيني في غزة، بالتعاون مع سلطات الاحتلال الإسرائيلي، والتعاون مع المخابرات المركزية الأمريكية في انتزاع الاعترافات تحت التعذيب، من الأشخاص المخطوفين الذين تنقلهم طائرات المخابرات الأمريكية إلى مصر خصيصًا لهذا الغرض.
إن المنظمات الموقعة أدناه إذ ترفض كل المغالطات والتشويه لمنظمات حقوق الإنسان، تؤكد على أن التخطيط للهجوم على منظمات حقوق الإنسان كان معدًا وجاهزًا منذ 2010 في عهد الرئيس المخلوع مبارك، وذلك في إطار تأمين عملية توريث السلطة لنجله جمال مبارك، في مناخ هادئ بأقل قدر من الاعتراضات. ولذا لا يثير الدهشة أن مذكرة تحريات “مباحث أمن الدولة”، التي يستند إليها قضاة التحقيق، تم إعدادها قبل ثورة يناير، كما أن مقترح قانون الجمعيات الأهلية الجديد الذي أعلنت عنه الحكومة مؤخرًا، مؤرخ بتاريخ أبريل 2010، أي قبل الثورة، وهو كان يستهدف -في عهد مبارك والآن- المزيد من التقييد لمنظمات المجتمع المدني، بجعلها خاضعة تمامًا للجهات الإدارية والأمنية.
وأخيرًا:
إن اصطناع المعارك الوهمية مع دول أخرى لصرف الانتباه عن كوارث الإدارة السياسية الفاشلة للبلاد، وعن المذابح التي تقتل المصريين كل يوم، دون محاسبة للجناة الحقيقيين، لا يمكن أن يكون هدفًا وطنيًا، بل يلبي مصلحة قلة محدودة ترغب في الاستئثار بالسلطة والثروة، دون محاسبة أو مراقبة.
إن الافتخار العلني بعدم الدراية والافتقار إلى المعرفة الذي يمارسه يوميًا عدد من الوزراء وكبار المسئولين، خلال التشهير بمنظمات حقوق الإنسان ودورها، والتضليل المتعمد للرأي العام حول القوانين واللوائح والنُظم المطبّقة في دول عربية وغير عربية بخصوص المجتمع المدني، لا يُشكل مصلحة وطنية، بل ينبغي أن يحاكم هؤلاء المسئولين على هذا التضليل المتعمد للرأي العام.
إن التآمر غير الأخلاقي على المجتمع المدني المصري لا يمكن أن يشكل هدفًا أو مصلحة وطنية. إن الأوطان تنهض في كل الدنيا بتحرير المجتمع المدني وليس بقمعه. يجب على البرلمان أن يمنح أولوية لتحقيق هذا الهدف، عبر إقرار مشروع القانون المقترح من منظمات المجتمع المدني.
إن عسكرة القضاء المدني، من خلال إدارته بالأوامر العسكرية، يحطم ما تبقى من استقلاليته ويحوله لأداة سياسية رخيصة، ولا يمكن أن يشكل مصلحة وطنية، بل يجب الحظر الكلي لإحالة المدنيين للقضاء العسكري، وتحرير إرادة القضاء المصري، وتمكين القضاة من إدارة شئون القضاء باستقلالية تامة، بما في ذلك محاكمة المسئولين عن جرائم حقوق الإنسان المرتكبة خلال ثلاثة عقود قبل الثورة، والمذابح المتوالية التي ارتكبت بعدها.
إن استمرار نفس منهج نظام مبارك في استخدام آليات قضائية لتحقيق أهداف سياسية ضيقة، على حساب المصالح الوطنية العليا للبلاد يجب أن يتوقف. يجب الضغط من أجل تحقيق استقلال القضاء في مصر، يجب على البرلمان أن يعتمد دون تردد أو إبطاء المشروع المقدم من رئيس المجلس الأعلى للقضاء لهذا الغرض.
الموقعون:
1. مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان.
2. البرنامج العربي لنشطاء حقوق الإنسان.
3. جماعة تنمية الديمقراطية.
4. الجمعية المصرية للنهوض بالمشاركة المجتمعية.
5. جمعية حقوق الإنسان لمساعدة السجناء.
6. جمعية شموع لرعاية حقوق المعاقين.
7. جمعية صاعد للتنمية وحقوق الإنسان.
8. حملة حرية التنظيم.
9. دار الخدمات النقابية والعمالية.
10. الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان.
11. فرقة الورشة المجتمعية.
12. المؤسسة العربية لدعم المجتمع المدني وحقوق الانسان.
13. مؤسسة المرأة الجديدة.
14. المؤسسة المصرية للنهوض بأوضاع الطفولة.
15. مؤسسة قضايا المرأة المصرية.
16. مؤسسة مبادرون للتنمية الثقافية والإعلام
17. .المبادرة المصرية للحقوق الشخصية.
18. مجموعة المساعدة القانونية لحقوق الإنسان.
19. مرصد الموازنة العامة وحقوق الإنسان.
20. المركز الدولي لدعم الحقوق والحريات.
21. مركز القاهرة للتنمية.
22. المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
23. مركز أندلس لدراسات التسامح.
24. مركز هشام مبارك للقانون.
25. مصريون ضد التمييز الديني.
26. المكتب العربي للقانون.
27. المنظمة العربية للإصلاح الجنائي.
28. المنظمة المصرية لحقوق الإنسان.
29. نظرة للدراسات النسوية.
30. المعهد المصري الديمقراطي.
31. مؤسسة حرية الفكر والتعبير.