عن الوعي النسوي

سلمي النقاش
باحثة نسوية

تدوينة

22 فبراير 2014

ارتبطت بشاب في مثل عمري عندما كنت طالبة بالثانوية العامة وكان يدرس في نفس المدرسة، وأول شروط ارتباطه بي كان ارتداء الحجاب!! وعندما بدأنا دراستنا الجامعية أول ما طلبه مني هو الاهتمام بمظهري ووضع المساحيق على وجهي التي طالما كرهتها كرهاً أعمى حتى أليق به - لكي أكون "مزّة" بالقدر الكافي في نظره ونظر أصدقاءه فيتباهى بعلاقتنا. وطالما قبلت منه هذه التعليقات والأوامر الصريحة لأني كنت أراها جزء من رجولته وطريقته في التعبير عن الاهتمام بي بل وتحمل مسئوليتي، التي كنت أراها واجباً عليه. بدأت دراستي في الجامعة وكانت مرحلة تغير جذري في وعيي وفيما أراه مقبولاً سواء من أسرتي أو من هذا الشاب الذي أحببته، وظننت طوال علاقتنا أن مصيري مرتبطاً به وسينتهي بي الأمر زوجة له.. فهذه النهاية السعيدة التي طالما حلمت بها كسائر الفتيات.

صرت أشعر بالانزعاج الشديد من تعليقاته المستمرة على تصرفاتي وأصدقائي وما أعبر عنه من آراء في السياسة، ولأنني في فترة دراستي الجامعية بدأت أنخرط مع مؤسسة معنية بقضايا النساء، فبدأت أعي إلى أنه ليس من "الطبيعي" أو "العادي" أن أقبل ممارسة السلطة عليّ حتى من أبويّ، اللذين طالما كانا يرانني منطلقة أكثر مما ينبغي لانخراطي في أنشطة عديدة فنية مع فريق المسرح في الكلية وسياسية ونسوية مع المؤسسة التي تطوعت بها منذ بداية دراستي بالجامعة.

بدأت أرى حياتي الشخصية بشكل مغاير لما اعتدت عليه، ورأيت أن الاستقلال صار هدفاً فلم أعد أرغب في الاعتماد على أحد. وتدريجياً بدأت علاقتي بهذا الشاب تسوء لأنني صرت أراه متسلطاً ومقيداً لي بقدر يفوق احتمالي.

وعندما كنت أسمع قصص صديقاتي عن معاركهن هن الأخريات في علاقاتهن الأسرية والعاطفية، كنت ألاحظ أوجه التشابه المفاجئة بين معاركنا جميعاً، وكأننا نخوض المعركة ذاتها بدءاً من الشجار مع الأهل لكي يتركوا لنا مساحة أكبر للخروج والعودة في وقت متأخر، وصولاً إلى اختيار شريك الحياة والعمل الذي نرغبه. وخاضت بعضنا معارك كبرى لخلع الحجاب أو ارتداء الملابس التي تريدها، وطالما شعرنا بالتعاطف مع بعضنا البعض وكان التضامن سمة أساسية بيننا في معاركنا، فكنا نكذب من أجل بعضنا البعض سواء على الأهل أو الحبيب حتى نفعل ما نشاء. وعندما تطور وعيي "النسوي" في الفترة الأخيرة وخاصة مع قيام الثورة في 25 يناير وانخراطي في العمل مع "نظرة للدراسات النسوية" في دعم الناشطات السياسيات وتكوين مجموعة النسوية الصغيرة وغيرها، أدركت أن هذا ما يطلق عليه "التضامن النسوي" ولكن في أبسط صوره وهو شيء لو تعلمون عظيم كما تقول دائماً صديقتي العزيزة النسوية مزن حسن.

لكن أدركت حاجة النساء لمثل هذا الوعي النسوي لكي يخضن معاركهن وهن متحررات من الإحساس بالذنب الذي طالما تملكهن لشعورهن بأنهن يطلبن ما ليس من حقهن، وحاجتهن أيضاً للتضامن مع بعضهن البعض حتى يشعرن بالقوة التي تدعمهن في قلب موازين القوى لصالحهن سواء في مجالهن الخاص أو في الحيز العام - الذي قد يخضن فيه معارك أكبر- ولكن ليست أكثر أهمية  ووضوح من معاركهن في المجال الخاص، لتضافر العام والخاص معاً وكذا تضافر هذه المعارك في كلا المجالين.

تقول جيردا ليرنر عن الوعي النسوي ”إن تعريفي للوعي النسوي يعني وعي النساء بأنهن ينتمين إلى فئة ثانوية، وأنهن تعرضن للظلم باعتبارهن  نساء، وأن وضعهن الثانوي الخاضع ليس وضعا مرتبطا بالطبيعة وإنما هو مفروض اجتماعيا، وأنه يجب عليهن التحالف مع نساء أخريات للتخلص من أشكال الظلم الواقع عليهن، وأخيرا أنه يجب عليهن تقديم رؤية بديلة للنظام الاجتماعي، بحيث تتمتع فيه النساء مثلهن مثل الرجال بالاستقلالية وحق تقرير مصيرهن.“ لم أكتشف معنى الوعي النسوي إلا مما تعلمته من العمل مع مجموعتي النسوية التي أشرف بالانتماء لها "نظرة للدراسات النسوية"، مدعوماً بالخبرة والمعرفة التي تلقيتها على يد أستاذات أنرن لي الطريق خلال فترة دراستي الجامعية مثل د. هالة كمال ود. سحر الموجي ود. هدى الصدة، ورأيت تجليات هذا الوعي في حياتي الشخصية وفي عملي العام النسوي والسياسي.

 أربط هذا الوعي بمعارك المجال العام والسياسي بشكل أوضح، حيث اضطررت في بعض الأحيان إلى اللجوء إلى خطاب ذكوري أحتمي به، كأن أصف نفسي أنني "أجدع من الشباب اللي في الحزب" أو أنني "بميت راجل"، وغيرها من الأقاويل التي جعلتني أتغاضى في كثير من الأوقات عن معركتي الأساسية النسوية بامتياز.

وفي بعض الأحيان استخدمت المواجهة المباشرة لمقاومة الذكورية التي تسيطر على العمل السياسي والعام، خاصة في بدايات الثورة في 25 يناير 2011، حيث اضطررت للشجار مع أبي حتى أقيم بميدان التحرير وكنت أتحدى زملائي من الرجال في الميدان عندما كانوا يستخدمون عبارات مثل "الحريم تعدّي من هنا بعيد عن الأمن المركزي"، كما أنني أذكر معارك الشابات في مثل سني حتى يجبن شوارع الميدان بمنتهى الشجاعة، بالرغم من الهجمات المتتالية من البلطجية على الميدان والتي بدت مقدمات لما شهدناه في موقعة الجمل الشهيرة، لكي يصلن بالأدوية والبطاطين للمستشفيات الميدانية المنتشرة في أرجاء الميدان.

وما تلا موجة الثورة الأولى في 25 يناير من انفتاح في المجال السياسي والمجال العام للمصريين جميعاً- رجالاً ونساءاً- بدا لي فرصة ذهبية لكي أعمل في السياسة في إطار تنظيمي، كما كنت أطمح منذ بداية دراستي الجامعية. وقد شاركت في العديد من المؤتمرات التي عقدت لتأسيس كثير من الأحزاب التي نشأت بعد الثورة، وقررت الانضمام إلى إحداها ولكن دون أنشط بها لأن سرعان ما ظهر الاختلاف الفكري بين أيديولوجية هذا الحزب وبين معتقداتي الشخصية. وانضممت لاحقاً لحزب آخر ظننته الأكثر "يسارية" من بين أحزاب الثورة لكونه معني بقضايا العمال والطبقات الأكثر فقراً وتهميشاً، لأصطدم بعد ذلك ببنى ذكورية تسيطر على عقلية قيادات الحزب وشبابه على حد سواء. وبدت المسألة أكثر قرباً لي عندما انضممت إلى مكتب العمال في الحزب فإذا بي أجد نفسي أتولى مهام سكرتارية بحتة داخل المكتب، كأن أكتب محاضر الاجتماعات أو أقوم بالاتصالات لكي أسهّل على زملائي من الرجال العمل في المواقع المختلفة مع العمال.

وعندما كنا بصدد انتخابات المؤتمر العام في الحزب وقف الكثير من الأعضاء ضد فكرة الكوتة للنساء داخل المؤتمر العام، ولأنني لم أدرك في البداية المشكلة العميقة المرتبطة بتنميط أدوار النساء في العمل السياسي أيضاً، وقفت أنا الأخرى أعترض على تطبيق كوتة داخل المؤتمر العام للحزب، لأجد النتائج بعد ذلك مخزية في هذه الانتخابات، بالرغم من كونه حزباً "تقدمياً" أفترض جدلاً أن المساواة والعدالة تأتي على رأس أجندته السياسية، أو هكذا تصورت. وظهر واقع الأمور جليّاً عندما رأيت الكثير يدافع عن وجهة النظر التي ترى معارك النساء نخبوية ولا تلامس الواقع العام للطبقات الأكثر فقراً، وأنه لابد أن تأتي "الجماهير" أولاً في كل الحسابات السياسية، دون النظر لمعارك النساء داخل صفوف الجماهير التي يتحدث عنها هؤلاء السياسيون خاصة بين الفقراء والأكثر تهميشاً.

وعندما ترشحت إحدى قيادات الحزب لمنصب الأمين العام، وُوجهت بانتقادات لكونها أم لطفلين ولن تستطيع التوفيق بين تربيتهما وعملها كأمينة عامة للحزب، عوضاً عن انتقادها لكونها شديدة العاطفية وفي مرات عدة خرجت من اجتماعات حادة في الحزب باكية.

علاوة على ذلك، ما واجهته الناشطات النسويات من عدم اهتمام واستخفاف واضح من العديد من الأحزاب المدنية عندما تزايدت حوادث العنف الجنسي في محيط ميدان التحرير- حيث كنّ يطالبن هذه الأحزاب بتحمّل المسئولية السياسية تجاه هذه الظاهرة، والاهتمام بتأمين المظاهرات التي تنظمها هذه الأحزاب والمشاركة في تأمين الميدان من المتحرشين والمغتصبين سواء من خلال مشاركة شباب الأحزاب في فرق التأمين أو توفير الكشافات الضوئية لإنارة المناطق المظلمة في الميدان، والتي يسهل فيها ارتكاب الاعتداءات الجنسية، أكّد لي أن البنية الذكورية في هذا المجتمع طالت كل شيء حتى القوى الديمقراطية "التقدمية" التي تطورت وتشكلت أكثر مع قيام ثورة 25 يناير 2011، والأسوأ من ذلك كان حالة النكران الذي تعيشه مثل هذه القوى فيما يتعلق بتعاطيها مع قضايا النساء أو وضع النساء فيها ككيانات سياسية من المفترض أن تعبر عن مصالح عموم الناس بما فيهم النساء.

كل هذه المواقف دفعتني دفعاً إلى التمسك بمنظور نسوي في عملي السياسي مثلما أتمسك به في حياتي الشخصية، أو على الأقل أسعى لذلك! فقد رأيت أنني لا أستفيد شيئاً عندما أضع السياسة أولاً، أو أحاول التغاضي عن الخلاف النسوي في مثل هذه المواقف التي ذكرتها وغيرها من الاختبارات التي أمرّ بها وبالنسبة لي هي معارك نسوية بالدرجة الأولى.

وأعود لأتأكد أنني لولا ما أحظى به من تضامن من المعنيات بهذا السؤال حول البعد النسوي في كل الأمور، لما كنت لأكمل العمل سواء في السياسة أو غيرها، وما كنت لأخوض معارك في الحيز الخاص للتمتع بحريتي الشخصية، ويتأكد لي مع مرور الوقت تضافر النضال السياسي مع النضال الشخصي وأنه لا فصل بينهما مهما حاولت النظر لكل من هذه النضالات على حدى.

التضامن النسوي هو الحل!

* نشرت على موقع قُل يومي 14 يناير 2014 و28 يناير 2014.

رابط دائمhttp://nazra.org/node/292