مقدمة
تعد قضية العنف ضد النساء وبالأخص العنف الجنسي في المجال العام من الظواهر المتفشية في مصر منذ وقت طويل والتي شغلت المجتمع المصري في السنوات الأخيرة، ولقد انشغلت نظرة للدراسات النسوية بتلك القضية على وجه الخصوص لما تطرحه من أسئلة حول ملكية النساء لأجسادهن وتحدي للفكر الأبوي المسيطر على المجتمع.
تتعرض النساء في مصر للعنف الجنسي بشكل يومي في الشوارع والمواصلات وأماكن العمل وأيضا في المنازل، فالعنف في المجال العام لا ينفصل عن العنف في المجال الخاص حيث أنه استمرار له ولا يمكن فصلهما. وتستمر تلك الجرائم نتيجة لعدة أسباب من أهمها الإفلات من العقاب ووجود إشكاليات في القوانين وتطبيقها مما يشكل تهديدا للسلامة الجسدية والنفسية للناجيات من العنف الجنسي ويلحق أضرارا جسيمة بهن. ولقد اتخذت قضية العنف الجنسي منحنيات عدة على مدى العقود الماضية ووصلت لإحدى نقاط تحولها خلال أحداث الثورة المصرية في يناير 2011 واستمرت حتى الآن، فنشأت العديد من المبادرات الشابة في ذلك الوقت والتي قامت بتشكيل فرق تدخل لإنقاذ النساء اللاتي يتعرضن لكافة أشكال العنف الجنسي في الشارع لتصل إلى اعتداءات جنسية جماعية واغتصابات جماعية خلال التجمعات مثل المظاهرات أو/والأعياد وغيرها، ونشأت كذلك العديد من المبادرات النسوية الشابة في أنحاء الجمهورية والتي تعمل على قضايا العنف الجنسي في المجالين الخاص والعام والقضايا المختلفة التي تتعلق بالنسوية والنوع، ولقد قامت العديد من المجموعات النسوية المختلفة ومنظمات المجتمع المدني النسوية والمهتمة بالعمل على قضايا النساء وحقوقهن بتكثيف العمل على قضية العنف الجنسي، فقامت المجموعات والمنظمات المعنية بعمل العديد من الحملات للتوعية والمناصرة لإعادة تعريف المصطلحات والمفاهيم الخاصة بالعنف الجنسي، وكذلك تشكيل وبناء تحالفات مختلفة للعمل على تعديل القوانين الخاصة بالعنف ضد النساء بدءا من مشروع قانون العنف الأسري الذي أعده مركز النديم وقام بعرضه على برلمان 2010 المنحل، مرورا بتشكيل "قوة عمل من أجل مناهضة العنف الجنسي" والتي طرحت تعديلات على المواد الخاصة بالعنف الجنسي في قانون العقوبات، وصولا إلى تشكيل قوة عمل من أجل قانون موحد لمناهضة العنف ضد النساء" من قبل مجموعة من المؤسسات والمجموعات النسوية والتي قامت بإعداد مسودة لقانون موحد لمناهضة العنف ضد النساء في ديسمبر 2017.
على الرغم من الجهود المبذولة من قبل المجموعات النسوية والحقوقية واستجابة مؤسسات الدولة إلى بعض هذه الجهود والمتمثلة في تعديل بعض القوانين الخاصة بالعنف الجنسي وكذلك وضع استراتيجية خاصة بمناهضة العنف ضد المرأة التي عمل عليها المجلس القومي للمرأة بالتعاون مع العديد من الوزارات المعنية والجهات الحكومية المختلفة وتم إطلاقها في مايو 2015، وأيضا استراتيجية تمكين المرأة 2030، إلا أن قضية العنف الجنسي لا تزال تواجه العديد من التحديات ولا تزال العديد من الممارسات التي كانت ترتكب قبل تعديل تلك القوانين مستمرة ولا تزال الجرائم المرتكبة من قبل فاعلين في الدولة مستمرة وفي كثير من الأحيان يفلتون من العقاب، ومن ضمن الأمثلة على تلك الجرائم المتكررة: واقعة التحرش والاعتداء بالضرب على سيدة من قبل أمين شرطة عام 2016 في محطة مترو المرج الذي تم إخلاء سبيله بضمان وظيفته، وهناك واقعة أخرى حدثت في شهر مايو من عام 2017 حيث تحرش أمين شرطة بطفلة أمام مدرستها بمحافظة سوهاج وتم حجزه وعرضه على النيابة، وتحرش أمين شرطة من قوة تأمين الكنيسة لفظيا بسيدة أمام كنيسة في محافظة الجيزة وصرح مصدر أمني بوزارة الداخلية أن مرتكب الواقعة تمت إحالته للجنة التفتيش والرقابة التابعة للوزارة. وترتكب جرائم العنف الجنسي كذلك من قبل الفاعلين المجتمعيين بشكل مستمر وهناك العديد من الحوادث التي ارتكبت على مدار العقود الأخيرة التي تتسم بشدة عنفها مثل ما تعرضت له إحدى الناجيات في واقعة اعتداء جنسي جماعي في مدينة الزقازيق في بداية عام 2017 وقد أفلت المجرمون من العقاب في هذه الواقعة كغيرها وتواطأت مؤسسات الدولة المختلفة في تبريرها للواقعة وإلقاء اللوم على الناجية كما تتعرض المعلمات وغيرهن من العاملات في كثير من الأحيان إلى عنف جنسي يصل إلى الاغتصاب في أماكن العمل، وما تعرضت إحدى المعلمات من واقعة إعتداء جنسي جماعي من الطلبة الذكور في إحدى المدارس في محافظة الجيزة مثال على ذلك.
ومن هنا رأت نظرة للدراسات النسوية أهمية إصدار ورقة حول إشكاليات القوانين المعمول بها حاليا والمرتبطة بفلسفة التشريع الخاصة بجرائم العنف الجنسي ضد النساء وتسليط الضوء على إشكاليات تطبيق تلك القوانين من حيث الآليات والسياسات المتبعة داخل المؤسسات المختلفة المعنية بنظر قضايا العنف الجنسي والتي تنعكس وتؤثر بشكل مباشر على الناجيات من العنف. وتهدف هذه الورقة إلى استعراض المكتسبات التي تمت إثر تغيير تلك القوانين التي تم تناولها سلفاً والإشكاليات المرتبطة بالقانون وتطبيقه، وأثرها على الناجيات من العنف الجنسي في ضوء القضايا التي عملت عليها نظرة للدراسات النسوية في الفترة من عام 2013 وحتى نهاية عام 2017. ستقوم الورقة أولا باستعراض بعض مجهودات ومطالب الحركة النسوية الخاصة بقوانين العنف الجنسي ومدى الاستجابة لها، ثم سيتم تحليل إشكاليات القوانين والمواد الحالية المتعلقة بالعنف الجنسي، وأخيرا سنقوم بعرض المشاكل الخاصة بالتطبيق.
1- مطالب الحركة النسوية وتعديل السياسات والتشريعات
تاريخ الحركة النسوية و اشتباكها مع قضية العنف الجنسي ضد النساء
اشتبكت الحركة النسوية مع قضية العنف الجنسي منذ عقود طويلة وطالبت المجموعات النسوية منذ ما يزيد من عقد بتبني تشريعات وتعديلات قانونية لمناهضة العنف الجنسي ضد النساء. ففي عام 1993 قام مركز النديم لعلاج وتأهيل ضحايا العنف والتعذيب ومؤسسة المرأة الجديدة بعمل بحث ميداني خاص بإدراك النساء للعنف الواقع عليهن، كما شكلت حادثة الأربعاء الأسود التي وقعت في عام 2005 أمام نقابة الصحفيين بالقاهرة نقطة تحول كبيرة في كشف الغطاء عن ممارسات الدولة لإقصاء النساء من المجال العام؛ عندما تم الاعتداء الجنسي على ناشطات وصحفيات من قبل فاعلين في الدولة وقامت العديد من المنظمات الحقوقية والنسوية بالدفاع عن الناجيات والمطالبة بمعاقبة مرتكبي الجريمة كما.قاد مركز النديم حملة من أجل تبني قانون لمناهضة العنف الأسري منذ عام 2005 حيث أن القانون المصري لا يجرم العنف الأسري
وفي عام 2006 نشر المركز المصري لحقوق المرأة أول بحث عن التحرش الجنسي في مصر وفي نفس هذا العام بدأت قضية العنف الجنسي تشغل المجتمع المصري نظرا لما حدث من اعتداءات جنسية جماعية أمام دور السينما بوسط البلد بالقاهرة، كما استطاعت العديد من المؤسسات الحقوقية والنسوية أن تخلق نقاش مجتمعي حول تلك القضية.
تمكنت نهى رشدي عام 2008 من الحصول على حكم قضائي بحبس المتحرش ثلاث سنوات، كما شكلت 23 مؤسسة ومجموعة حقوقية ونسوية من مختلف المحافظات "قوة عمل مناهضة العنف الجنسي" والتي ظلت تعمل لعدة سنوات وأصدرت مقترحا لتعديل قانون العقوبات الخاص بجرائم العنف الجنسي عام 2010، واستمرت هذه المطالبات لسنوات عدة من قبل العديد من المنظمات والمجموعات النسوية ومن ضمنها تجريم جميع أشكال العنف ضد النساء في باب واحد من أبواب قانون العقوبات، تعديل مادة الاغتصاب لتشمل الاغتصاب الشرجي والفموي والذي يتم ارتكابه بالأصابع أو الأدوات الحادة، استخدام مصطلحات "الاعتداء الجنسي" و"التحرش الجنسي" بدلا من المصطلحات غير الدقيقة أو الأبوية في القانون مثل مصطلح "هتك العرض"، " المساواة بين الرجال والنساء في النصوص العقابية وحماية الأطفال وتوحيد سنهم في جرائم العنف الجنسي"، الحد من سلطة القضاة في استخدام الرأفة في جرائم العنف الجنسي، إلخ. بالإضافة إلى ذلك، كانت مؤسسة قضايا المرأة المصرية قد أعدت مشروع قانون لحماية الشهود والمبلغين والذي يحمي الناجيات اللاتي يلجأن إلى المسارات القانونية. أخيرا، يحتوي قانون العنف الموحد الذي أصدره عدد من المنظمات النسوية في ديسمبر 2017 على العديد من مطالبات الحركة النسوية على مدى عقد، ويسعى إلى تقديم رؤية شاملة لمناهضة العنف بكافة أشكاله (متضمنا العنف الأسري والاغتصاب الزوجي ) وحماية الناجيات (يشمل القانون دور الدولة في توفير الخدمات اللازمة للناجيات من العنف مثل البيوت الآمنة).
بعض قوانين العنف الجنسي التي تم تعديلها
لم تستجب الدولة إلى جميع مطالب الحركة النسوية ولم تكن التعديلات التشريعية التي تم تبنيها دائما على مستوى طموحاتها، إلا أنه مع ضغط المجموعات النسوية قامت الدولة بتعديل بعض من مواد قانون العقوبات المجرمة لجرائم العنف الجنسي. على سبيل المثال أصدر المجلس العسكري مرسوم بقانون يحمل رقم 11 لسنة 2011 مشتملا على عقوبات مغلظة لجرائم العنف الجنسي محاولا الحد منها، وجاءت تغليظ العقوبات للجرائم على النحو الآتي:
- بالنسبة لجريمة الاغتصاب المادة 267 من قانون العقوبات:
كانت المادة تنص على الآتي:
من واقع أنثى بغير رضاها يعاقب بالسجن المؤبد أو المشدد. فإذا كان الفاعل من أصول المجني عليها أو من المتولين تربيتها أو ملاحظتها أو ممن لهم سلطة عليها أو كان خادماً بالأجرة عندها أو عند من تقدم ذكرهم يعاقب بالسجن المؤبد.
ثم غلظت العقوبة بالمرسوم السالف ذكره لتصبح:
من واقع أنثى بغير رضاها يُعاقب بالإعدام أو السجن المؤبد. ويُعاقب الفاعل بالإعدام إذا كانت المجني عليها لم يبلغ سنها ثماني عشرة سنة ميلادية كاملة أو كان الفاعل من أصول المجني عليها أو من المتولين تربيتها أو ملاحظتها أو ممن لهم سلطة عليها أو كان خادماً بالأجر عندها أو عند من تقدم ذكرهم، أو تعدد الفاعلون للجريمة.
ليصبح الحد الأدنى للعقوبة هو السجن المؤبد والحد الأقصى هو الإعدام.
- بالنسبة لجريمة الاعتداء الجنسي "هتك العرض" فكانت المادة 268 من قانون العقوبات تنص على:
كل من هتك عرض إنسان بالقوة أو بالتهديد أو شرع في ذلك يعاقب بالسجن المشدد من ثلاث سنين إلى سبع.
وإذا كان عمر من وقعت عليه الجريمة المذكورة لم يبلغ ست عشرة سنة كاملة أو كان مرتكبها ممن نص عنهم في الفقرة الثانية من المادة 267 يجوز إبلاغ مدة العقوبة إلى أقصى الحد المقرر للسجن المشدد.
وإذا اجتمع هذان الشرطان معاً يحكم بالسجن المؤبد.
ثم غلظت العقوبة بالمرسوم السابق ذكره لتكون:
كل من هتك عرض إنسان بالقوة أو بالتهديد أو شرع في ذلك يُعاقب بالسجن المشدد.
وإذا كان عمر من وقعت عليه الجريمة المذكورة لم يبلغ ثماني عشرة سنة ميلادية كاملة أو كان مرتكبها أو أحد مرتكبيها ممن نُص عليهم في الفقرة الثانية من المادة (267) تكون العقوبة السجن المشدد مدة لا تقل عن سبع سنوات، وإذا اجتمع هذان الظرفان معاً يُحكم بالسجن المؤبد.
ليصبح حدها الأدنى السجن المشدد 15 عام وحدها الأقصى السجن المؤبد.
كما قام الرئيس المؤقت السابق "عدلي منصور" أثناء توليه مقاليد الحكم بإصدار مرسوم بقانون رقم 50 لسنة 2014 والتي قضى بتعديل المادة 306 مكرر (أ) في قانون العقوبات وإضافة المادة 306 مكرر (ب) والمعروف بقانون "التحرش الجنسي"، وينص ذلك التعديل على الآتي:
المادة 306 مكرر (أ): يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر وبغرامة لا تقل عن ثلاثة آلاف جنيه ولا تزيد على خمسة آلاف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من تعرض للغير في مكان عام أو خاص أو مطروق بإتيان أمور أو إيحاءات أو تلميحات جنسية أو إباحية سواء بالإشارة أو بالقول أو بالفعل بأي وسيلة بما في ذلك وسائل الاتصالات السلكية أو اللاسلكية. 2 وتكون العقوبة الحبس مدة لا تقل عن سنة وبغرامة لا تقل عن خمسة ألاف جنيه ولا تزيد على عشرة آلاف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين إذا تكرر الفعل من الجاني من خلال الملاحقة والتتبع للمجني عليه. وفي حالة العود تضاعف عقوبتا الحبس والغرامة في حديهما الأدنى والأقصى.
يضاف إلى قانون العقوبات الصادر بالقانون رقم 58 لسنة 1937 مادة جديدة برقم 306 مكرر (ب) نصها الآتى: يعد تحرشا جنسيا إذا ارتكبت الجريمة المنصوص عليها في المادة 306 مكررا (أ) من هذا القانون بقصد حصول الجاني من المجني عليه على منفعة ذات طبيعة جنسية، ويعاقب الجاني بالحبس مدة لا تقل عن سنة وبغرامة لا تقل عن عشرة آلاف جنيه ولا تزيد على عشرين ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين. فإذا كان الجاني ممن نص عليهم في الفقرة الثانية من المادة (267) من هذا القانون أو كان له سلطة وظيفية أو أسرية أو دراسية على المجني عليه أو مارس عليه أي ضغط تسمح له الظروف بممارسته عليه أو ارتكبت الجريمة من شخصين فأكثر أو كان أحدهم على الأقل يحمل سلاحاً تكون العقوبة الحبس مدة لا تقل عن سنتين ولا تتجاوز خمس سنين والغرامة التي لا تقل عن عشرين ألف جنيه ولا تزيد على خمسين ألف جنيه.
آثار التعديلات القانونية على النساء والقضايا المنظورة
بالرغم من تغليظ بعض العقوبات لجرائم العنف الجنسي وتبني أو تعديل بعض المواد في قانون العقوبات كما هو موضح أعلاه، إلا أنه لا زال هناك قصور واضح في التشريعات، حيث أن تغليظ العقوبة ليس الحل الأمثل للحد من تلك الجرائم، بل الأهم هو وجود قانون يعرف جرائم العنف الجنسي بشكل متكامل وآليات فعالة لتطبيقه، وهذا ما سيتم تناوله في هذه الورقة لاحقا. قصور التشريعات في وصف جرائم العنف الجنسي، وإعطاء تعريفات ذات مدلول ضيق ومحدود لمفاهيم مهمة جدا للحد من العنف ضد النساء، ولنظرة المشرع المحدودة لجرائم العنف الجنسي والتي أعطاها صور جامدة وأشكال ثابتة، فقد خرج بذلك عن شروط التعريف الأساسية في التشريع وهو أن يكون التعريف جامعا لكل صفات الشيء ومانعا لتداخل التعريفات والأفعال المشابهة عليه، ذلك الأمر الذي يعد من المشكلات الأساسية في التشريع والتي سيتم شرحها تفصيلا في جزء الإشكاليات المتعلقة بتعديل القانون، إلا أن هناك بعض المكتسبات التي استفاد منها النساء والفتيات مثل تجريم التحرش الجنسي والذي يعد أحد أهم المكتسبات التي حدثت في السنوات الأخيرة، فأصبحت العديد من النساء والفتيات يقمن بالإبلاغ عن وقائع التحرش الجنسي المختلفة التي يتعرضن لها بصفة يومية في المجال العام. وقد عملت نظرة للدراسات النسوية خلال تلك الفترة على أكثر من 47 قضية عنف جنسي بمختلف أنواعها (تحرش جنسي واعتداء جنسي واغتصاب) وأخذت بعض القضايا أحكام بحبس المعتدين، وبعضها حكم فيها بالبراءة، إلا أن أغلب تلك القضايا تم حفظها لعدم كفاية الأدلة أو لعدم وجودها أو حفظت كإثبات للحالة دون اعتبارها جريمة، أو لتنازل الناجية نفسها لأسباب مختلفة لها علاقة مباشرة بتطبيق القانون كما سيتم استعراضه لاحقاً.
2- الإشكاليات القانونية المتعلقة بجرائم العنف الجنسي
أولا: فلسفة المشرع
بالرغم من التقدم التشريعي والاجتهادات في التعريف بجرائم العنف الجنسي بكل أشكالها في الكثير من دول العالم، إلا أن التشريعات في مصر تحتاج إلى توسع أو اجتهاد في الشرح بحيث أن تتطرق إلى الشكل التفصيلي للجرائم المبنية على أساس النوع، فحتى الآن يتم النظر إلى جرائم العنف الجنسي ضد النساء والفتيات على أنها جرائم أخلاقية، بل ويتم التعامل في التشريع على هذا الأساس باعتبار أنها جرائم لها علاقة "بالشرف"، فجرائم العنف الجنسي قد صنفت بالباب الرابع من الكتاب الثالث من قانون العقوبات المصري تحت إسم باب "هتك العرض وإفساد الأخلاق" بالرغم من أن الجرائم المنصوصة به هي جرائم عنف واضحة. وإن كانت الناجية هي المجني عليها بتلك الجرائم؛ إلا أنه بمنظور أبوي عام يرى أن المجني عليهم هم أصحاب العرض والشرف - أهل المجني عليها - وأن المتهمون هم ناقصي ومنعدمي الخلق. ولكن يجب التأكيد على أن جرائم العنف الجنسي على النساء والفتيات هي جرائم عنف قوامها الأفعال المرتكبة بحقهن وأساس التجريم هو لحماية الحق الأصيل في السلامة الجسدية والحماية من العنف بكافة أشكاله والحق في الحرية الجنسية.
ومع ذلك وبالرغم من قيام المشرع المصري بمحاولات كثيرة لحصر جملة الأفعال التي تمثل اعتداء ومن ثم تجريمها بوضع إسم لتلك الجرائم ووضع شكل تجريمي لها ووصف أشكال الجريمة وأركانها والغرض من ارتكابها وبيان الفعل الذي يعد جريمة سواء عند القيام به أو الامتناع عن أدائه، إلا أن هذا الحصر غير كافي تماما لتحديد كل الجرائم والأفعال المرتكبة المتعلقة بالعنف الجنسي.
فهناك إشكاليات كبيرة ظهرت بعد صدور القوانين وتعديلاتها وتجسدت أثناء تطبيق تلك القوانين الموضوعة والمعدلة. وأثرت تلك الإشكاليات بالسلب على تحقيق العدالة وعلى خط سير القضايا بشكل مباشر، بل وعملت تلك الإشكاليات على قيد بعض الجرائم بقيود أخرى ووصفها بأوصاف تختلف عن الوصف الحقيقي لها، الأمر الذي أصبحت معه الجرائم تسمى بمسميات أخرى لا تمت بالفعل المرتكب بصلة وبالتالي تتغير العقوبة الواجبة التطبيق على الجريمة الحقيقية.
وتتعلق تلك الإشكاليات بأمور مختلفة منها ما هو متعلق بالتشريع ووجهة نظر المشرع ومنها ما يتعلق بمراحل التقاضي؛ فمنها ما يتعلق بأوصاف الجريمة نفسها ومن ثم الآثار التي تترتب أو تبني عليها، وأخرى تتعلق بصعوبة الإثبات الجنائي في تلك القضايا.
ثانيا: الوصف القانوني للجرائم
وهو النموذج الذي يحدده المشرع في قانون العقوبات لماهية الجريمة ويعتبر ارتكابها – سواء القيام بأمر أو الامتناع عن فعله - جريمة ويترتب عليها عقوبة معينة.
واجهت قضايا العنف المبنية على أساس النوع إشكاليات كثيرة متعلقة "بتوصيف الجرائم وترجع معظمها إلى نظرة القائم بالتشريع والتي تنبع من الفكر الأبوي واتجاهه لفهم الضرر الواقع على النساء من منظوره والذي غالبا ما يكون أبوي، ففي أغلب الأحوال يكون المشرع ذكر وبالتالي لا يستطيع الإلمام بكل أشكال العنف التي تتعرض لها النساء والفتيات في الحياة الخاصة والعامة. فكما تناولنا رؤية المشرع لجرائم العنف الجنسي تتمثل في أنها جرائم مساس "بالشرف والعرض" وليست جرائم عنف جسدي ونفسي. وتتجلى تلك الرؤية من منطق المشرع في وضعه للقوانين وتحديد نطاق التجريم وأشكال الجرائم بل وكذلك أشخاص مرتكبيها في بعض الجرائم. وبتلك الرؤية يضع المشرع شكل جامد وثابت للجرائم والمجني عليهم بها ومرتكبي تلك الجرائم على الرغم من أن جرائم العنف الجنسي ليست لها شكل محدد ويمكن أن يختلف نوع مرتكبها، وكذا طريقة ارتكاب الجريمة وأيضا اختلاف شكل الجريمة نفسها ولذلك يستلزم أن يكون هناك مرونة في تشريع وصياغة الجرائم والتوسع في أشكالها وتحديد مرتكبيها.
وصف جريمة الاغتصاب:
عرف القانون المصري فعل الاغتصاب بوصفه "مواقعة أنثى بغير رضائها".
ولقد وصف المشرع فعل المواقعة بكونه "الاتصال الجنسي التام الطبيعي بين رجل وامرأة، فلا يعد مواقعة دون ذلك من الأفعال كالمساس بالعضو التناسلي للمرأة أو وضع شيء آخر فيه أو إزالة بكارتها بالإصبع. هذا دون إخلال باعتبار هذا الفعل هتك عرض - وهي جريمة تقل في عقوبتها عن جريمة الاغتصاب - أو شروعا في اغتصاب حسبما يكون عليه القصد الجنائي للمتهم" وتعريف الاتصال الجنسي الطبيعي هنا يقصد به إيلاج العضو الذكري التناسلي بالعضو التناسلي للمرأة ولا تقع الجريمة إلا بهذا الشكل، واسترسل المشرع في وصفه لفعل المواقعة بقوله: "ويتعين في المواقعة أن تكون طبيعية، فإتيان الأنثى من الخلف لا يعد مواقعة وإن اعتبر هتك عرض"، فلا تقع جريمة الاغتصاب إذا تم الإيلاج في فتحة الشرج فلا يعرف القانون الاغتصاب الشرجي وإذا تم الإيلاج في الفم فلا يعتبر كذلك اغتصاب فموي، واعتبر صورة الجريمة تامة عند إيلاج العضو الذكري بالمهبل فقط وغير هذا الشكل يعد "هتك العرض" وهي جريمة تقل في عقوبتها عن عقوبة الاغتصاب، كما لا يتصور المشرع أن تقع الجريمة إلا بإيلاج العضو الذكري فالاغتصاب بواسطة الأدوات والأصابع لا يعد جريمة اغتصاب أيضا، ولا يتصور أن تقع الجريمة إلا من رجل ولا يتصور أن يقع الاغتصاب على رجل، فاسترسل المشرع في شرحه قائلا: "ويشترط أن تحدث المواقعة بين رجل وامرأة، فالفاعل الأصلي في هذه الجريمة لابد أن يكون رجلا. ويشترط في الفاعل الأصلي أن يكون قادرا على الاتصال الجنسي، فتتوافر الاستحالة المادية للجريمة ممن ليست لديه هذه القدرة إما لصغر سنه أو لمرض فيه". وأكمل المشرع شرحه لفعل المواقعة قائلا: "لابد أن يكون المجني عليه في هذه الجريمة أنثى، فلا مواقعة من رجل لرجل. ويشترط في المواقعة أن تكون غير مشروعة، فالزوج الذي يواقع زوجته كرها لا تقع منه جريمة الاغتصاب لأنها حل له بمقتضى عقد الزواج". فالنظرة الأبوية للمشرع تمنعه من أن يرى أحقية النساء في تملك أجسادهن وحقهن في السلامة والكرامة الجسدية أيا كان الجاني، ولا يأخذ في الاعتبار الضرر النفسي والمعنوي الذي يقع على الناجيات من تلك الجريمة بل ويرى جريمة الاغتصاب تقتصر على اختراق المهبل فقط ولا يرى فعل الاختراق نفسه في أي مكان كان في جسد المجني عليه/ا هو في حد ذاته جريمة اغتصاب يجب أن يعاقب عليها القانون بالتوصيف الشامل للجريمة، كما يقنن جريمة الاغتصاب الزوجي باعتبارها من "حقوق" الزوج. فهناك العديد من جرائم الاغتصاب التي تم الحكم فيها طبقا للقانون على أنها جريمة "هتك عرض" مثل قضية الناجية التي تم اغتصابها بالأصابع من قبل فني الإضاءة في مستشفى واتهم المعتدي بارتكابه لجريمة هتك عرض وحكم عليه بالسجن لمدة عام.
جريمة الاعتداء الجنسي "هتك عرض":
يعرف الاعتداء الجنسي بأنه "كل فعل بهدف الإثارة الجنسية أو الحط من جنس المجني عليه، سواء كان ذكراً أو أنثى، يستطيل إلى جسده بغير رضاه، ولا يصل إلى حد الاغتصاب". وبالنظر إلى قانون العقوبات المصري فأنه لا يعترف بجريمة الاعتداء الجنسي ولكنه يعرفها في المادة 268 من قانون العقوبات "كهتك عرض".
فهناك مشكلة كبيرة في استخدام مصطلح "هتك عرض" في مسمى الجريمة وذلك لأنه ربط الجريمة بالشرف والأخلاق فاعتبرها جريمة أخلاقية وليست جريمة عنف جنسي، واستخدام ذلك المصطلح يعزز من فكرة أن الضرر من الجريمة يقع على ذوي وأهل المجني عليها وليس على الناجية وبذلك يقلل من حجم الأذى النفسي والجسدي الواقع عليها. وبالإضافة إلى ذلك، المشكلة في تسمية الجريمة بذلك المسمى الأبوي يترتب عليها امتناع بعض الناجيات عن السير في الإجراءات القانونية أو حتى الإبلاغ خوفا من المسمى وما يحمله في طياته من وصم مجتمعي بأن ما أسماه القانون بالعرض - وهو الحق المحمي- قد هتك.
ووصف المشرع المصري جريمة "هتك العرض" على أنها "فعل مخل بالحياء العرضي للمجني عليه ويستطيل إلى جسمه"، فاستخدام كلمة حياء لوصف الضرر والأذى الذي تتعرض له الناجيات من جراء تعرضهن لفعل عنف جنسي هو تبسيط وتقليل من الفعل والجريمة المرتكبة والأثر النفسي له.
جريمة التحرش الجنسي:
وصف قانون العقوبات المصرى فعل التعرض للغير بإتيان أمور أو إيحاءات أو تلميحات جنسية وجرمه بموجب نص المادة 306 مكرر أ من قانون العقوبات المصري، ثم أعطى وصفا دقيقا إذا كان غرض الجاني من جريمة التعرض هو الحصول على منفعة جنسية من المجني عليه، واعتبر هذا الفعل تحرشا جنسيا.
ويؤخذ على المشرع ذلك الوصف الضيق للتحرش كما يؤخذ عليه ربط مفهوم التحرش بقصد الجاني من التعدي، لا بمدى الضرر النفسي والأدبي الواقع على المجني عليه. فجريمة التحرش في القانون المصري لا تقوم إلا إذا كان غرض الجاني الحصول على المنفعة الجنسية وبإتيان تلميحات جنسية، بهذا الشكل لا يمكن أن تقوم جريمة إذا كان غرض الجاني الحط والتحقير من شخص المجني عليه.
كما أن التحرش بهذا الوصف لا يسري على تلك التعديات التي تقع على مناطق أخرى من الجسد والتي لا تعد "عورة" للمجني عليه/ها، فعلى سبيل المثال إذا أمسك الجاني بشعر المجني عليها وكان غرضه التحرش بها فلا يعد هذا الفعل جريمة تحرش كونه لم يشمل التجريم فعل اللمس، كما أنه لا يعد كذلك جريمة هتك العرض لأنه فعل لا يشكل إخلالا جسيما بما يعد مناطق "عفة" للمجني عليها.
الإثبات الجنائي:
أحيانا يشكل الإثبات في جرائم العنف الجنسي عائقا، ويؤدي في بعض الأحيان إلى حفظ الشكاوى والبلاغات. فوقوف المحقق على حقيقة واقعة تنطوي على جريمة أو شبه جريمة يقع عبء إثباتها عليه لكونه المدعي بالحق الجنائي للمجتمع ومحرك الدعوى الجنائية. وحتى تتوفر عناصر الاشتباه يجب أن يكون كلام المدعي(ة) منطقيا وعليه أن يقيم دليلا على صحة ادعائه (من قاعدة أن البينة على من ادعى). و"الدليل" في الإجراءات الجنائية متنوع وليس له شكل ثابت فأي شئ يمكن أن يكون دليلا ولكن يجب أن يكون هذا الدليل قد تم التحصل عليه من إجراءات مشروعة، فيكون من الصعب في أغلب الأحوال على الناجيات من جرائم العنف الجنسي إقامة الدليل عند التبليغ والشكوى وذلك لأسباب مختلفة وعديدة منها:
1- أن بعض الجرائم تقع في أماكن خالية من المارة، لكونها مناطق نائية أو بسبب عامل الوقت؛ وعليه يصعب إيجاد شاهد إثبات واحد على صحة الواقعة، الأمر الذي قد يدفع المحقق لحفظ الشكوى أو البلاغ لعدم كفاية الدليل وكإثبات للحالة فقط، ولقد تواصلت نفس الناجية مرتان مع نظرة للدراسات النسوية في عامي 2014 و2016 بخصوص طـلب دعم قانوني بعد أن تعرضت لتحرش لفظي وايمائات وملاحقة وتم تتبعها في سيارتها من قبل الجاني الذي كان يستقل سيارته أيضا واستطاعت الناجية أن تصور رقم السيارة لكي يستدل على هوية الجاني، وتم تحرير محضر بالواقعة إلا أن النيابة قد حفظت المحضر ضد مجهول لعدم كفاية الأدلة في الواقعتين ورفضت التظلم المقدم لفتح المحضر مرة أخرى في إحداهما.
2- تقع العديد من جرائم العنف الجنسي في أماكن مزدحمة ويبقى من الصعب أيضا على الناجية إيجاد شاهد لإثبات صحة الواقعة، حيث أن الإجراءات المتبعة لتحرير محضر بالواقعة في قسم الشرطة المختص، ثم الذهاب للنيابة للإدلاء بأقوال الشاهد التي في الأغلب ما تتم في اليوم التالي لحدوث الواقعة، تشكل عائقا على الشاهد وفي كثير من الأحيان على الناجية أيضا بسبب طول الوقت الذي تتخذه تلك الإجراءات، مما يدفع الناجية بالتنازل عن المحضر في قسم الشرطة وأحيانا أخرى في النيابة. وقد عملت نظرة للدراسات النسوية في عدد من القضايا التي شكل عامل عدم ظهور شاهد في سرايا النيابة أو رفضه الذهاب مع الناجية إلى قسم الشرطة عامل لعدم استكمال القضية، أو عدم وجود شاهد من الأساس لحدوث الواقعة في مكان العمل مثلا، مثلما حدث لإحدى الناجيات في عام 2015 التي لم تستطع إيجاد شاهد إثبات على صحة الواقعة لحدوثها في مكان العمل وتم حفظ المحضر في النيابة المختصة بعد عام من حدوث الواقعة، وفي واقعة أخرى حدثت في وسيلة مواصلات عامة وتقدمت فيها الناجية إلى الشرطة لتحرير محضر بالواقعة عام 2016 ولم يكن هناك شاهد إثبات على صحة الواقعة، فقامت النيابة العامة المختصة بحفظ المحضر بعد شهر من تاريخ ورود البلاغ لعدم كفاية الأدلة.
3- حينما تحدث جرائم العنف الجنسي في أماكن العمل، يكون إثبات حدوث الواقعة في معظم الأحيان من الصعوبات التي تواجه الناجيات وذلك لعدة أسباب، منها مثلا أنه على الأغلب ما تحدث تلك الجرائم في مناطق خالية من العاملين أو/ و خالية من كاميرات المراقبة، كما أنه على الأغلب ما ترتكب تلك الجرائم من قبل أفراد لديهم سلطة أكبر على الضحية مثل المدير أو صاحب العمل ....إلخ، وفي الربع الأخير من عام 2014 ورد إلى نظرة بلاغ عبر الخط الساخن من ناجية قد تعرضت لاعتداء جنسي من مديرها وحينما ذهبت للشرطة لتحرير محضر ضده، كان من الصعب عليها إثبات الواقعة ونجح المدير في استخدام سلطته وإقناع زملائها بالشهادة ضدها، مما دفعها في نهاية الأمر للتنازل عن المحضر وتم طردها كذلك من عملها.
4- بعض الجرائم لا يصدقها المحقق ولا يتصور حدوث الواقعة على النحو الذي روته الشاكية أو المبلغة (كقيام شخص بإظهار عضوه الذكري للناجية في المواصلات العامة متعديا عليها جنسيا بذلك الفعل ثم يقوم بإخفائه سريعا) فإذا ما رويت الناجية للمحقق تلك الرواية لن يقتنع بكلامها، أو لن يعتبر الفعل المرتكب اعتداء من وجهة نظره، ومن الجرائم التي تعتبر(إشكالية) وتقع تحت تعريف جريمة التحرش الجنسي؛ إظهار العضو الذكري للنساء في الشارع أو في المواصلات العامة والخاصة، وكذلك الإستنماء في بعض الأحوال، ومن ثم يحفظ المحضر لعدم وجود دلائل. ويظهر ذلك القصور بشكل واضح في أحد القضايا التي عملت نظرة عليها في مايو 2014 حينما تعرضت إحدى الناجيات لواقعة تعري من موظف في مكان عام وقررت النيابة تبرئة الجاني من التهمة المنسوبة إليه بعد 5 أشهر من تاريخ ورود البلاغ للنيابة المختصة، وفي واقعة تعري أخرى لاعتداء جنسي تم تقديم الدعم القانوني فيها للناجية عام 2016، قررت نيابة الجنح المختصة بحفظ المحضر إداريا واستبعاد جنحة "هتك العرض" وذلك بعد 7 أشهر من تاريخ ورود البلاغ.
5- إثبات عدم الرضا بجريمة الشروع في الاغتصاب وهتك العرض الذي لا يترك علامات للمقاومة على جسد الناجية، ويصعب على الناجيات إثبات الجريمة، فيعرف القانون فعل الإكراه على أنه "قد يكون ماديا أو أدبيا، ويتحقق الإكراه المادي بارتكاب فعل من أفعال القوة والعنف على جسم المرأة مما يؤثر على المجني عليها فيعدمها الإرادة ويقعدها من المقاومة ولا يشترط أن تترك أثر جروح في المجني عليها، إذ العبرة بالقدر اللازم لشل مقاومة المجني عليها وهو أمر يتوقف على ظروفها الشخصية وحالتها الصحية. أما الإكراه الأدبي فيقع بطريق التهديد بإلحاق شر مستطير بجسم المجني عليها أو مالها أو سمعتها أو شخص عزيز عليها، وغير ذلك مما من شأنه أن يشل إرادتها ويخضعها لرغبة الجاني. وهناك عوامل أخرى تعد في حكم الإكراه مثل المباغتة، والخداع وغيره من سبل الغش، وانتهاز فرصة فقد المجني عليها شعورها في أثناء النوم، أو الإغماء، أو انعدام الشعور بسبب السكر، أو الجنون وما في حكمه مما يعدم الإرادة". ولكن القانون تناسى أن المقاومة لا تشترط أن تكون مرتبطة بأي فعل قوة ولكن عندما تتعرض النساء للاغتصاب أو الاعتداء الجنسي يحدث لهن رد فعل نفسي يسمى بالإنجليزية "tonic immobility" ومعناه أن النساء يتعرضن لشلل تام عندما يتعرضن للعنف الجنسي كاستجابة نفسية للحفاظ على سلامتهن النفسية وذلك طبقا لدراسة قامت بها Sweden's Karolinska Institute على حوالي 300 سيدة تعرضن للاغتصاب ونتج عن الدراسة أن 70% منهن قد تعرضن للشلل التام عندما تعرضن للاغتصاب فلم يكن قادرات على الحركة أو النطق أو إبداء أي استجابة. كما أغفل القانون أيضا علاقات القوة الموجودة بين النساء والرجال وأثرها النفسي والمادي على الناجية والتي تؤثر بشدة على عامل الرضا، فيكفي أن يكون الجاني رجلا حتى تشعر الناجية بالخوف والتهديد دون أن يقل أو يفعل شيئا يعتبره القانون تهديدا. وهذا ما قد حدث في أحد وقائع الاغتصاب التي تدخلت فيها نظرة لتقديم الدعم القانوني اللازم للناجية من الاغتصاب في بداية عام 2017، حيث تعامل وكيل النيابة مع الناجية بسخرية لكون الناجية قد تواجدت في منزل الجاني بمحض إرادتها وذلك من منظوره لا يوقع اللوم على الجاني بل على الناجية بسبب ثقافة لوم الناجية، وأقرت النيابة المختصة بأنه لا وجه لإقامة الدعوى الجنائية وذلك لاستبعاد شبهة الجناية وأصدرت قرارا بحفظ القضية وتقييدها إداريا في نهاية عام 2017.
3-إشكاليات تطبيق القوانين وتأثيرها على الناجيات من العنف الجنسي
أولا: الخصوصية
غالبا ما يتعرضن المبلغات عن جرائم العنف الجنسي لانتهاك خصوصيتهن في مرحلة التبليغ ومراحل التقاضي المختلفة والتي تتخذ العديد من الأشكال، ومنها تسريب بيانات للناجيات عبر محاضر الشرطة في الأقسام وأحيانا النيابات، مما يجعل الكثير من الناجيات يتراجعن عن فكرة التبليغ ككل أو التنازل عن محضر الشرطة بعدما يقوم في أغلب الأحيان أحد أقارب الجاني بالذهاب إلى محل إقامة الناجية المسجل في المحضر وابتزازها عاطفيا أو تهديدها بالتعرض لها لكي تتنازل عن محضر الشرطة أو عن القضية ككل في حالة إحالتها إلى النيابة، وفي أحيان أخرى تمثل معرفة الأهل أو الأقارب في حد ذاته تهديد لسلامة الناجية النفسية والجسدية، بسبب ثقافة لوم الناجيات المنتشرة في المجتمع. كما أن غياب قانون يحمي المبلغين/ات والشهود والذي طالما طالبت به العديد من المنظمات النسوية يجعل هذا الأمر شديد الانتشار ودائما ما تشعر المبلغات بعدم الأمان والخوف عندما يحدث ذلك ويدفعهن للتنازل عن المحضر. وحدث ذلك بالفعل في واقعة تحرش جسدي عملت عليها نظرة بتقديم الدعم القانوني للناجية والتي تعرضت فيها للابتزاز من قبل أهل الجاني، حيث أنهم ذهبوا إلى منزل الناجية للضغط عليها هي ووالدتها لكي تتنازل عن المحضر المحرر ضد المتهم، وقد قامت الناجية بالتنازل عن المحضر بالفعل في النيابة المختصة في عام 2015 وتم حفظ المحضر بعد 3 أشهر من حدوث الواقعة.
ثانيا: الاحتجاز
في بعض الأحيان لا تكون السلامة النفسية والجسدية للناجيات من العنف الجنسي في حسبان القائمين على سن القوانين والتشريعات وكذلك القائمين على تنفيذ القانون، فتتعرض الناجيات من العنف الجنسي لخطر مبيتهن في مكان الاحتجاز في قسم الشرطة. ودائما ما يحدث ذلك في حالة قيامهن بالتبليغ عن واقعة عنف جنسي تعرضن لها وفي نفس الوقت يكون الجاني أيضا لديه شكوى في حق المجني عليها (الناجية) بأنها قد قامت بسرقته أو بضربه أو/سبه، ويحرر محضر ضد الناجية. وفي تلك الحالة يقوم ضابط الشرطة أو المسؤول عن كتابة المحضر بإرسال كليهما - الجاني والمجني عليها - إلى مكان الاحتجاز في قسم الشرطة لحين عرضهما على النيابة في صباح اليوم التالي للبت في صحة الواقعة. ولقد ورد بلاغ إلى نظرة في عام 2015 بخصوص تعرض ناجية (قاصر) لاعتداء جنسي في الشارع ومحاولة اختطاف وعندما ذهبت لقسم الشرطة المختص لتحرير محضر تم رفض تحريره بل وتم احتجازها في القسم وضربها والتنكيل بها، وللأسف فقدنا التواصل مع الناجية بعد ذلك ولم تستكمل الإجراءات.
ثالثا: رفض عمل محضر
ومن خلال عملنا في تقديم الدعم القانوني للناجيات من العنف الجنسي، تبين لنا أنه في بعض الأحيان يرفض ضابط الشرطة المسؤول تحرير محضر للناجية بإثبات الواقعة، مما يعد انتهاك للقانون وخرق للمواثيق والاتفاقيات الدولية. ويعتبر هذا الفعل نوع من أنواع التمييز حيث يشعر الضابط أنه من حقه ألا يأخذ أقوال إحدى الناجيات على محمل الجد، بل ويستخف بالواقعة وأثرها النفسي عليها. وصدور مثل تلك الأفعال من القائمين على تنفيذ القانون يجعل الناجيات يترددن ويخفن من تحرير محاضر شرطة والإبلاغ عن العنف الذي يتعرضن له. وفي بعض الأحيان لا يقوم وكيل النيابة المسؤول عن التحقيق في قضية عنف جنسي بأخذ أقوال الناجية على محمل الجد ويستخف بما تعرضت له مما يجعل الناجيات يشعرن بإهانة شديدة والتقليل مما تعرضن له.
رابعا: طول مدة الإجراءات
في بعض الأحيان تتخذ الناجيات من العنف الجنسي القرار بعدم الذهاب لأقسام الشرطة لتحرير محضر بواقعة العنف الجنسي التي تعرضن لها نظرا لطول فترة الإجراءات والتي تعطلهن لعدد طويل من الساعات، وفي أحيان أخرى تتنازل الناجيات عن المحضر بعد تحويله للنيابة وذلك لطول فترة التحقيق والتي تستمر لساعات قد تصل إلى أكثر من 20 ساعة في بعض الحالات، كما أن إحالة القضايا للمحاكمة بعد التحقيق قد يأخذ فترة طويلة وأحيانا يتعدى السنة مما يدفع الناجيات إلى فقدان الأمل في الأخذ بحقهن وفي اللجوء للقضاء كوسيلة لرد اعتبارهن جراء ما تعرضن له. وفي واقعة تحرش إلكتروني وردت إلى فريق نظرة عن طريق الخط الساخن في عام 2015، قامت فيها الناجية بتقديم بلاغ للجهة المختصة ولكنها عزفت عن المتابعة بعد فترة لفقدانها الأمل في الإجراءات.
4- التوصيات
1- تعديل قانون العقوبات وإصدار قانون موحد لتجريم العنف ضد النساء يتم به تغيير المفاهيم والتعريفات على أن يشمل تعريفات واضحة ومحددة لجرائم العنف الجنسي، وأن تكون متضمنة تعريفات لجرائم التحرش الجنسي والاعتداء الجنسي والاغتصاب ليشمل الاغتصاب الفموي والشرجي والاغتصاب باستخدام الآلات الحادة والأدوات والأصابع ويجرم الجرائم المرتكبة من قبل الفاعلين في الدولة والمجتمع في كل من المجالين الخاص والعام.
2- توفير الحماية اللازمة والملائمة للناجيات خلال مراحل التحقيق المختلفة وبعده وذلك من خلال تطبيق الآتي:
أ- إنشاء بيوت آمنة مناسبة للنساء، ويتم كذلك توزيعها جغرافيا بشكل عادل، والتعاون مع منظمات المجتمع المدني في تدريب العاملات بهذه البيوت على كيفية التعامل مع الناجيات.
ب- حماية الناجيات أثناء وبعد تحرير محضر بواقعة الاعتداء التي وقعت عليهن من الحبس عن طريق تحرير محضر مضاد من قبل الجاني.
ج- إصدار لوائح داخلية لتنظيم سير العمل في وحدات مكافحة العنف ضد المرأة التابعة لوزارة الداخلية، بحيث أن تنظم عملية تقديم الدعم للناجيات من العنف؛ فمن المهم تفعيل الخط الساخن الخاص بتلقي البلاغات وكذلك الانتقال إلى مكان حدوث الواقعة بشكل سريع وكفؤ لتجنب أن يقع عبء ضبط وإحضار المتهم على الناجية.
د- خلق نظام إحالة متكامل يربط بين مؤسسات الدولة وبعضها البعض المعنية بالتعامل مع الناجيات فتراعي الحالة النفسية والجسدية التي تكون عليها الناجيات، مثل أن يكون باستطاع الناجية أن يتم تحويلها إلى مصلحة الطب الشرعي فور ذهابها للنيابة وقبل البدء في التحقيقات.
3- إصدار قانون لحماية الشهود والمبلغين يحمي المعلومات والبيانات الخاصة بالناجيات والشهود في جرائم العنف الجنسي ويراعي خصوصيتهن، وقد عملت بعض المنظمات الحقوقية والنسوية على تحرير مسودة لهذا القانون.
4- استحداث نيابات مختصة للتحقيق في جرائم العنف الجنسي بحيث أن تكون سريعة البت في ذلك النوع من القضايا.
5- خلق آلية تسمح للمجتمع المدني والمؤسسات النسوية بمتابعة تطبيق الاستراتيجية الوطنية لمناهضة العنف ضد المرأة الصادرة عن المجلس القومي للمرأة في عام 2015.
6- التوعية بوجود استراتيجية وطنية لمناهضة العنف ضد النساء عن طريق الإعلان عنها والترويج لها وذلك حتى يتم تحفيز النساء أنفسهن للدفع بتطبيقها والمطالبة بحقوقهن التي تضمنها لهن الاستراتيجية، وقد تتضمن هذه الحملة الدعائية تشجيع النساء على اللجوء للخدمات المختلفة التي توفرها الدولة طبقا للاستراتيجية مثل البيوت الآمنة ووحدات مكافحة العنف، إلخ. واللجوء إلى مكتب الشكاوى بالمجلس القومي للمرأة للإبلاغ عن أي انتهاكات بما فيها تلك التي قد تحدث بداخل مؤسسات الدولة أو الخدمات المقدمة منها.
7- خلق آلية لتعيين قاضيات مدربات على التعامل مع الناجيات من تلك الجرائم في الدوائر الجنائية وخاصة لنظر القضايا المتعلقة بالعنف الجنسي، الأمر الذي سيساهم في تحسين الاستجابة القضائية لذلك النوع من القضايا.